بالتأكيد لم تكن غايته حينها أن يصلح العالم الذي يعامله كغريب أطوار. بل أن إحدى أهم الجمل في مقدمة رسالته الأخيرة أشارت إلى هدف عكس ذلك تماما: "إنني أتعفن مللًا لولا ريشتي وألواني هذه، أعيد بها خلق الأشياء من جديد". هرب فان جوخ من عالم رفضه واضهده، إلى عالم جديد خلقه هو لنفسه، بألوانه التي اختارها هو. إذًا، ماذا عن محمود درويش عندما تحدث عن الوحدة قائلًا: "ووحدي.... كنت وحدي عندما قاومت وحدي... وحدة الروح الأخيرة" كان الشعر حينها مؤنسًا لدرويش، وربما سلاح مقاومة. وبغض النظر عن استعمالات غير الفنانين للفن، فقد كان للفنانين غايات مختلفة تمامًا، غايات خاصة بهم. وفي اقتباس لنيتشه "لقد اخترعنا الفن لكي لا نموت من الحقيقة". كيف بدأ الفن إذّا؟ وما هي الغايات السامية التي تدفع الفنانين ليصبحوا فنانين؟ " نعرف جميعًا أن الفن ليس الحقيقة، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة" - بابلو بيكاسو.
هل هناك غاية مشتركة بين "هاملت" لشكسبير، و"الصرخة" لإدوارد مونش؟ هل يضع الفنانون أهدافهم مثل رواد الأعمال قبل أن يشرعوا في فنهم؟ أم أن الفن يأتي نتاج حاجة الشخص لا غايته؟ أظن أنني أميل للاحتمال الثاني. فمثلًا، كانت الوسيلة الوحيدة المتاحة لفان جوخ للاتصال بهذا العالم هي أن يخلق عالمًا مضادًا من الكلمات والصور. ولذلك فقد امتهن الجمع بين أفكارٍ خارجة عن المألوف، وألوانٍ وخطوطٍ لم يكن لها أي معنى قبل أن يضيف لها عواطفه وحسه المرهف. بعد أن أدرك فان جوخ حاجته العظيمة لعالمٍ خاص به، أدرك حينها أنه فنان.
إن أعظم اللوحات، وأكثر الأعمال الروائية عبقرية، وأكثر الأبيات الشعرية إنسانية، لم يتم إنتاجها إلَّا بعد أن امتلأ أصحابها بالمشاعر التي لم يجدوا مخرجًا آخر لها، وهكذا صنعت كل الفنون. الفن حاجة وليس غاية بحد ذاته، لا يمكن للكاتب أن يصبح كاتبًا بمجرد أن يأخذ دروسًا في تكنيكات الكتابة، أو للرسام أن يصبح رسامًا بمجرد تعلم فنيات الرسم، أو حتى للعازف أن يصبح عازفًا بمجرد إتقان بعض النوتات. أهم عنصر في الفن هو الروح؛ روح الفنان وبصمته الخاصة. الروح التي يكتسبها خلال تجربته الحياتية، ثم يستعمل الفن ليصلح ما لم يستطع إصلاحه بأي طريقة أخرى.
فاكس: 00962.6.4633565
صندوق بريد: 940255 عمان 11194 الأردن
بريد إلكتروني AHSF@shoman.org.jo