تخيّل نفسك في القرن الثاني عشر قبل الميلاد في مدينة طروادة بعد انتهاء الاحتفالات بالنصر العظيم على جيوش الإغريق التي نكّلت بالبلاد وعاثت فيها الفساد طيلة العقد الماضي. تتلمس طريق العودة لمنزلك بين ظلمات الليل وأكوام الناس المترامية في كل زاوية من زوايا المدينة بعد أن أعياهم الاحتفال، فاستلقوا في أيّ مكانٍ وجدوا أنفسهم فيه. تلقي نظرةً أخيرة نحو تمثال الحصان العظيم الذي خلّفه جيش العدو كهدية لهم قبل أن ينقلب على عاقبيه، ثم تلج إلى منزلك متلمساً سريرك كي تأوي لنومٍ عميق بعد أن امتلأ فؤادك غبطة وسعادة بانتهاء كابوس الحرب. وما إن تغمض عينيك حتى تسمع الصراخ يدوي في جميع أنحاء المدينة لتعتقد انتهاء العالم أو نزول سخط من آلهة جبل أوليمبس. لتنظر من النافذة فترى جيش الإغريق في كل شوارع المدينة يكمل مهمته بكسر شوكة طروادة للأبد غير مدركٍ لمصدر هؤلاء الجنود!
والآن فلنتوقف عن التخيّل بعض الشيء ونعود للواقع. لقد كانت حرب طروادة من أشهر الحروب التي حصلت في اليونان القديمة والتي ما تزال أخبارها وآثارها خالدة إلى يومنا هذا مثل البرمجيات الخبيثة التي أطلق عليها مصطلح حصان طروادة (Trojan Horse) في علم الحاسوب والمعلوماتية. ولعل أحد أسباب حضورها بقوّة هو قصيدتا الإلياذة والأوديسة الملحميتين لهوميروس، واللتان تركتا بصمتيهما في التاريخ كأعظم الإنتاجات الأدبية الإنسانية.
هوميروس
اختلف المؤرخون في اسمه ونسبه، لكنهم اتفقوا على أن هوميروس هو لقبٌ اشتهر به كناية عن فقدانه لبصره أثناء شبابه. ولم تتفق الأقوال فيما يتعلق بتاريخ ميلاده، إلا أن أرجح الأقوال وضع مولده بين نهاية القرن العاشر وبدايات القرن التاسع قبل الميلاد في مدينة أزمير في دولة تركيا الحديثة حالياً. لقد بلغ مرتبة عظيمة لدى أهل اليونان حتى أنّ أرسطو نسبه للآلهة وكان يعتبره المثل الأعلى في الشعر لكل الإغريق. بل حتى أن الإسكندر المقدوني كان يحمل نسخة من منظومات هوميروس معه في ترحاله وغزواته ويترنم بأشعاره ويطرب بأقواله. فأصبحت أشعاره تقتبس في الآفاق كما يقتبس المسلمون من القرآن والمسيحيون من الإنجيل واليهود من التوراة. حتى أنّه لقّب بأبي الشعر والشعراء لما بلغ من الإبداع في نظم الشعر.
حرب طروادة
حسب القصص والأساطير الإغريقية فإن الحكاية بدأت عندما زار الأمير باريس ابن بريام ملك طروادة مدينة إسبرطة. وأثناء إقامته فيها منتظرا عودة الملك منيلاوس من سفره أعجبه حسن هيلين فقد كانت أجمل نساء العالم في ذلك الزمان. واختلفت الروايات في كيفية اختطافها إن كانت عنوةً أو عبر سلب فؤادها بالمودة أو السحر. حاول الإغريق استردادها بشتى الوسائل لكنهم فشلوا، ما أدى لقيام تحالف بين جميع المدن الإغريقية بقيادة أغاممنون أخي منيلاوس وملك ميكينيا. لتدور رحى الحرب مدى عشرة أعوام وتنتهي بانتصار الإغريق إذ تظاهروا بالانسحاب تاركين تمثالاً خشبياً على هيئة حصان عظيم ولكنه كان يخفي بعض الجنود في داخله, فقام الطرواديون باعتباره أحد جوائز النصر في الحرب ليدخلوه مدينتهم المنيعة والعصيّة عن الحصار. ليقوم الجنود بالتسلل ليلاً وفتح بوابات المدينة لبقية الجيش. فانتهت الحرب بانتصار الإغريق بهذه الحيلة الذكية.
لماذا يتم تعظيم الإلياذة؟
ما يزال من الصعب التفرقة بين الأسطورة والواقع والمبالغات فيما يتعلق بحرب طروادة في النصوص التاريخية والأدبية التي وصلت إلينا. فقصيدتا الإلياذة والأوديسة التي كتبهما هوميروس بعد الحرب بعدة قرون كانتا من أقدم النصوص المسجّلة للوقائع التي وصلت إلينا، ورغم امتلاك الإلياذة لقرابة 16 ألف بيتٍ من الشعر فإنها لا تتناول سوى مدة 40 يوما من الحرب التي استمرت 10 أعوام. وبالتأكيد كان هناك الكثير من الشعراء ممن سبق هوميروس وكتب الملاحم الشعرية من قبله لكنّه وصل للقمة بمهارته وإبداعاته الأدبية، فبقيت آثاره واندثرت آثار العديد ممن سواه.
لكن مرتبة الإلياذة الرفيعة لا تعزى فقط لروايتها لتلك الأحداث العظيمة والملحمية والتي تسلب الألباب. فتناول هوميروس مواضيع دائمة التواجد في نفوس البشر من الحب والشرف والحرب والموت. تلك المواضيع التي دائماً ما تكون حاضرة في كل الأزمان والأماكن دون أن تخلو أيام النفس البشرية من مقارعتها. وأضف ذلك أن القصيدة جمعت كافة معارف العصر حينها. فخاض هوميروس في التاريخ والجغرافيا والدين والسياسة وفنون الحرب والقتال. وتناول الطب والفلك والفنون وشتى الحرف والمهن. ولا أجد كلمات أدق من وصف سليمان البستاني لعظمة هذه الملحمة وخلودها فقال في مقدمة ترجمته للقصيدة للغة العربية:
"فإن هوميروس إنما نقر على أوتار الأفئدة فأثارها، ونفخ في بوق الأرواح فأطارها، ومزج الحقيقة بالخيال مزجا يخيل لك أنهما تآلفا فتحالفا، وسبر أعماق النفس فيَّ سذاجتها، وتحرى الفطرة في بساطتها، وهاج العواطف والشعائر، وتكلم بجلاء لا تشوبه مسحة التكلف، فأسهب موضع الإسهاب، وأوجز موضع الإيجاز، ومثَّل تمثيلاً ناطقا، وفصّل تفصيلا ً صادقاً عن عقيدة وإخلاص. وإذا أضفنا إلى ذلك بلاغة الشعر، وتناسق النظم، ودقة السبك، ورقة المعنى، والسهولة والانسجام ذهبت عنك غرابة ذلك الخلود"
وتر آخيل
كان آخيل بطلاً إغريقياً ومحارباً مغواراً شجاعاً ذا قوة ومنعة. فكان أعظم المحاربين الإغريق محرزاً الانتصار تلو الانتصار. ويتناول هوميروس غضبه وكيده في الإلياذة وأثره في تصرفاته. فينتكف تارة عن المشاركة في الحرب لخلاف مع أغاممنون، ويعود للقتال لموت صديقه المقرّب فطرقل على يد جيش طروادة. ولعلك سمعت بوتر آخيل مئات المرات في جميع الأفلام والكتب والروايات قبل الآن دون أن تعرف نشأة الأسطورة التي أفضت لهذا اللفظ.
يحكى في الأسطورة أن والدة آخيل كانت حورية بحر، وأرادت أن تهب ابنها الخلود والمناعة من الأذى. فقامت بغمر جسده في نهر ستيكس الذي يجري في العالم السفلي ويدور سبع مرات حول عالم الأموات. فأصبح جسده لا يقهر عدا المنطقة التي أمسكت جسده منها أثناء تغطيسه بالنهر وهي كعب قدميه. فكانت تلك نقطة ضعفه الوحيدة والتي لا يستطيع التغلب عليه سوى عبرها. وأثناء المعركة الأخيرة قام الأمير باريس برمي سهم نحو تلك الوتر كعب قدمه ليقتله وينتهي مصير هذا المحارب العظيم ومن يومها والوتر يعرف باسم وتر آخيل وأصبح يستخدم للكناية عن نقطة ضعف أحدهم.
إن الإلياذة والأوديسة من روائع الشعر والأدب الخالدة والتي أثّرت بشكل كبير على الحضارة الغربية، ورغم ذلك لم يقم العرب بترجمتها أثناء العصر العباسي مع باقي المؤلفات الفلسفية اليونانية، بل تأخر ذلك كثيراً فصدرت أولى التراجم في العام 1904 لسليمان البستاني (متاحة مجاناً من مؤسسة هنداوي عبر الانترنت).
لا يمكن إنكار شغفنا بقصص الأبطال ومغامراتهم حتى وإن مضى عليها أكثر من 3000 عام. فيبدو أننا جميعاً نتحول لأطفال ننتظر تتمة قصة ما قبل النوم عندما نغرم ببطل أو بطلة الحكاية. فأتمنى أن تجدوا في آخيل مؤنساً في معارككم القادمة في لجّ الحياة، وتدخل كلمات هوميروس الفرحة في مخيلاتكم الخصبة ودمتم سالمين.