على مواقع التواصل الاجتماعي، يعيش المثقفون والكتاب والأدباء العرب، فصاما حقيقيا، يعيد إلى الأذهان صورة المثقف في المخيال الشعبي والدراما ولدى العامة، كشخص لا علاقة له بسياقات الراهن، ويعيش عالمه الخاص الذي لا يتقاطع بالضرورة مع الحياة العامة.
كتّاب وأدباء يختصرون التحديات الراهنة بتبادل "الإعجابات" من خلال كتابات "عميقة" عن الحزن الغامض والشتلات الخضراء والزهور التي تذبل في الشمس، من غير أن يكون الحديث عن الذبول "كنايات" أو "توريات" للدخول في معترك واقع سوريالي يعيشه العربي اليوم في كل لحظة.
على امتداد سنوات العتمة التي سميّت قهرا بـ"الربيع العربي"، ظل هؤلاء الكتّاب والمثقفون يعيشون مراهقة متأخرة مستمرة، لم يشفع لتغييرها جميع الدم الذي تم سفحه فوق التراب العربي، ويتبادلون "أنخابا" رديئة على شكل تعليقات تُعلي من شأن الإفلاس الفكري الذي يعيشونه، مؤسسين لخراب آخر على شكل ترويج اللامبالاة والرداءة والفصام.
إنهم يعيشون في "غيتوهاتهم" الخاصة التي سيّجوها بفصامهم عن محيطهم، وإعلاء الجدران بينهم وبين مجتمعاتهم، من دون أن يبادروا ولو مرة إلى الاشتباك بهموم هذه المجتمعات التي تعاني اليوم من الظلامية والقهر والفقر والبطالة والكوليرا والاتجار بالبشر وبالفتيات الصغيرات، ومن تنامي أعداد الأميين، ومحاولات الحجر على العقول، والعنف ضد اجتهادات بعض النخب الفاعلة التي أخذت على عاتقها العمل تحت الشمس ضد جميع أشكال التطرف والظلامية ومصادرة الآراء الحرة والخيارات الشخصية.
يحق للمجتمع، في مثل هذا المقام، أن أن يبقى رابطا المثقف العربي بالصورة النمطية المتكررة في الدراما وفي الذهن، وهي الصورة التي شكّلته دائما شخصية مضطربة غير ودودة ولا متفاعلة مع محيطها، وتنزع إلى العزلة والانتهازية وعدم تحمل المسؤولية.
لكن أكثر ما يثير الضحك والسخرية، في آن، هو لجوء كثير من هؤلاء المثقفين المفصومين الكسالى إلى وضع اقتباسات من أقوال أنطونيو غرامشي، معتقدين أن مجرد اقتباس بعض الأقوال تجعل منهم "مثقفين عضويين"، من غير أن يغبّروا أحذيتهم بمجرد "نزهة ثقافية" إلى إحدى البؤر الساخنة داخل مجتمعاتهم.
لم يكن غرامشي منظّرا من وراء "كيبورد"، ولا كان يأمر الناس بالبرّ وينسى نفسه، بل كان مناضلا ماركسيا حقيقيا، مارس النضال على أرض الواقع قبل أن يلجأ إلى أرشفته وتأطيره ضمن سياقات نظرية مكتوبة. وحتى حين كان في السجن، خلال المرة الأخيرة التي مات فيها هناك، ظل على تواصل مع قضايا مجتمعه، ورافضا لديكتاتورية موسوليني وشمولية ستالين.
لكن المثقفين والكتاب العرب لا يمكن لهم تحمل النتائج المترتبة على اختيار أنموذج نضالي كهذا، لذلك نرى كهولهم؛ رجالا ونساء، يختارون النضال وسط المراهقين، ويمارسون تحرشا واضحا في ردودهم على الجنس الآخر، وكأنما يريدون أن يعيشوا عمرا لم يكتب لهم أن يحيوه ذات زمن.
هؤلاء المثقفون عبء كبير على مجتمعاتهم، وهم لا ينتمون سوى إلى خيالاتهم المريضة المليئة بأوهام الغرام والجنس، من خلال كلمات يسهرون الليالي الطويلة على صياغتها لتكون مصائد مغفلين لمن ترميهم الأقدار نحو صفحاتهم البائسة.
لهولاء نقول، إنه لا بد من عمر معين للنضوج، وإن ما كان ينفع في الشباب لا يمكن استمرار منفعته حين يكون لديكم أحفاد يدرجون في السنوات، وإن اختبار النصوص الرديئة واستجداء التعليقات والإعجابات من أشباهكم، لن يمنحكم صكا في الإبداع، خصوصا حين تطلب التعليقات والإعجابات في مواسم الجوع والدماء.