بحكم عملي كأمين مكتبة خلال السنوات الماضية، التقي بكثير من الناس الذين يبحثون عن مختلف أنواع الكتب، لكن خلال آخر السنوات بدأت ألاحظ أثر مواقع التواصل في تكوين المثقفين الناشئين، حيث أن مجموعات كبيرة من الشباب التي تأتي للمكتبة للاطلاع على ما فيها يطلبون ذات القوائم من الكتب، حتى أنني صرت أحفظ الكتب العشر "المقدسة" التي يعكفون على طلبها بإلحاح لقراءتها، رغم أنهم، في المجمل، لا يعرفون عنها غير عناوينها.
هذا الأمر أثار فضولي، فقرأت بعضها، لأجد أنها، في معظمها، كتب ذات مضمون سطحي ليس فيه أي قيمة مضافة أو ما يغني القارئ العربي، إذ تنحصر بالمجمل في موضوعات التنمية البشرية أو أحلام اليقظة والوعود الكاذبة، وإن كان حكمي هذا قاسيا ولا يلزم أحدا، لكنه أقرب ما أراه للحقيقة.
المشكلة بالتأكيد ليست في القراء، ولا بنواياهم الطيبة، وشغفهم الجميل بالقراءة، لكن المشكلة بالأداة التي صرنا نستخدمها مصدرا للمعرفة بحد ذاتها (أقصد هنا الفيسبوك) أو مصدرا للمعارف بشكل عام، إذ صار هذا الموقع يستحوذ على جزء كبير من تصوراتنا ونماذجنا المعرفية، واستعضنا به عن عالم الإنترنت الفسيح، فلا نعرف من المعلومات الا ما فيه، ولا نرى الا ما يرى، ولا نقرأ الا ما ينصحنا به رواده، بغض النظر عن خلفياتهم أو أهدافهم، وإن كانت في الغالب الأعم أهدافا ربحية لصفحات غايتها المال، والمشاهدات، وعدّاد الاعجابات والمشاركات.
وقد لاحظت مؤخرا أن شركات الاتصالات باتت تتعاون مع هذه الجهة، لذات الهدف وهو الربح، إذ صارت تخصص حزما خاصة لاستهلاك الفيسبوك، غير حزم الإنترنت العام، ما يدفع المستهلك لقضاء معظم وقته في هذه الجزيرة المعزولة، بعيدا عن كل مفيد.
لذلك صرت أرى أن ثقافتنا بحكم الأدوات الاستهلاكية هذه، غدت تناسخا، بعد أن كانت تقوم أصلا على التمايز، فبدل أن يبني الواحد منا ثقافته كما تبنى شخصيته، بفرادتها وعقلها، دون هذا التأثير المباشر والضخم والمركزي لمثل هذه المواقع، حتى صارت مجموعات كبيرة من الناس تحمل ذات الأفكار والهموم، ان اصطلحنا على تسميتها كذلك تجاوزاً! وعليه بات من الضروري أن ننتبه لهذه المسألة، ونحاول جاهدين أن ننوع مصادر معرفتنا، والنبع الذي نرتوي منه، بدلا من أن تباع لنا الثقافة معلبّة.
كل ما سبق ذكرني بما كتبه المفكر عبد الوهاب المسيري مرار و تكرارا عن كوكلة العالمCocalization ، او مكدلته Macdonaldization في محاولة صبغ أي مجتمع أو فرد بصبغة معينة وإشاعة نمط حياة معين، وقد أضاف أن الأمر ليس كوكلة وحسب وإنما هي كوكاكولونيالية، بدلا من "كولونيالية" أي أن الكوكلة هي الاستعمار في عصر الاستهلاكية العالمية، وهو استعمار لا يلجأ للقسر وإنما للإغواء، والمجال الدلالي لكلمة ("كوكلة" أو "مكدلة") يتداخل مع كلمة "تغريب" باعتبار أنها عملية فصل لكل القيم والثوابت والمطلقات (باعتبارها شكلاً من أشكال الميتافيزيقا) عن العالم والطبيعة وحياة الإنسان العامة ثم الخاصة، إذ يتحول العالم بأسره إلى مادة لا خصوصية ولا مرجعية لها، وقد نزيد على ما تفضل به بمصطلح جديد لم يلحق المسيري أن يعيشه بسبب وفاته، وهو الفسبكة Facebookization.
وعليه تكون الفسبكة هي محاولة تعليب المثقفين الجدد وتنميطهم وتأطيرهم، بدل أن يحافظوا على ثقافة تكون خاصة بهم وتميزهم عن غيرهم، ليصبحوا مثقفين عموميين رغم ما للثقافة من خصوصية عالية، إذا نشأت في إطارها الطبيعي وفي بيئة صحية بعيدا عن التناسخ، ضمن محاولة الإنسان تكوين نموذج معرفي يحكمه ويحتكم اليه، وذات واعية تدله و ترشده.
حقوق النشر للصورة تعود لصاحبها.