يشكّل الفيلم التركي "سحب شهر أيار" للمخرج نوري بيج جيلان، فرصة ثمينة للمشاهد المحلي، في الإطلاع على نموذج سينمائي فريد، محمل بالعديد من الرؤى الجمالية والفكرية اللافتة، والذي يكشف عن موهبة لامعة لمخرجه ببراعته السمعية البصرية، في تناول موضوع "السينما في السينما".
ويحتل فيلم "سحب شهر أيار" مكانة لائقة في مسيرة مخرجه الثرية بالاشتغالات "البلدة الصغيرة"، "بعيدا" ، "اجواء"، "حدث ذات مرة في الاناضول"، و"سبات شتوي"، الحاصل على السعفة الذهبية في مهرجان "كان" السينمائي، وفيها مجتمعة وضع بصمة خاصة تؤشر على فهم مخرجه العميق لدور ووظيفة السينما داخل المجتمع الانساني، مثلما استطاع تمكين السينما التركية الجديدة بأن تحتل مكانة لائقة في فضاءات السينما العالمية المعاصرة .
لفت "سحب شهر أيار" الذي حققه جيلان العام 1999، أنظار النقاد إليه لما اختزنته أحداث الفيلم من جماليات بصرية وتوظيف دقيق مقتصد لحركة الكاميرا في تشكيلات وتكوينات كشفت عن ميلاد مخرج أخذت المهرجانات الكبرى تتنافس على عرض أفلامه التالية.
قدّم جيلان في "سحب شهر أيار" معالجة سينمائية تبدو ثابتة المعالم والخيوط الرئيسة التي ينفذ من خلالها إلى النبش في حالات من التحول الاجتماعي والفردي المشرع على حراك بيئة مستمدة من سيرة ذاتية وإيقاع الحياة اليومية، وذلك لحظة عودة مخرج سينمائي من المدينة الكبيرة هي استنبول إلى قريته البسيطة في منطقة الاناضول، وذلك بغية انجاز فيلمه الجديد، ثم يأخذ في اختيار طاقم الفيلم من اهالي قريته.
ويواجه المخرج العديد من العقبات في اختيار شخصيات فيلمه نظرا لمحدودية موازنة العمل، قبل ان يلجأ الى اسناد الادوار الى افراد من داخل اسرته واقاربه واصدقائه وجيرانه من بينهم والد المخرج نوري سيلان ووالدته. تتمحور حكاية الفيلم حول والده الذي يسعى لإنقاذ ملكيته لغابة من اشجار الصنوبر تحاول الحكومة ازالتها لصالح مشروع توسيع طريق عام.
ويحفل الفيلم بالكثير من الشخصيات الحقيقية وهي تؤدي ادوار قريبة من واقعها المعاش داخل احداث تسري في ايقاع بطيء منها: جدته ووالدته وشقيقه الاصغر و الشاب المحبط والذي يطمح السفر الى تلك المدينة الكبيرة للعمل في صناعة الافلام، كل هؤلاء تنسج كاميرا جيلان الوانا من الحكايات البسيطة محملة بالعذابات اليومية ولحظات الانكسار الا انهم يمتلكون اصرارا على تحقيق آمالهم الرحبة، التي تفيض بالأحاسيس والمشاعر الانسانية النبيلة وغالبا ما تنحصر في اهمية الذاكرة والهوية والتعاضد بين افراد الأسرة تارة، والإنحياز الى الطبيعة تارة أخرى.
وغالبا ما تتضمن حكايات عن ذلك الرجل صاحب الكاميرا السينمائية التي تكشف عن اهتمامات وعالم صاحبها المخرج جيلان الذي يضطلع في أكثر من مهمة داخل الفيلم الواحد لتخرج من دائرة الإخراج إلى التصوير والمونتير، وكل هذا يجري بإحساس عميق وجاذبية تقتنصها عين العدسة من مناظر التضاريس في باحة البيت والزقاق والشارع وشاطيء البحر والضباب وتلبد الغيوم وهطول الثلوج وتعرجات الطريق، وسوى ذلك من مفردات الواقع والمناخ.
يشتبك سيلان مع تناقضات عديدة تتحكم في مجتمعه تثيره معاناة مخرج/المصور في بيته الكائن في استنبول وهو الذي غادر بلدته الريفية وعندما يحضر قريبه من القرية باحثا عن عمل في المدينة الكبيرة يفجر المخرج كل هذه التناقضات ويكشف عن نزعات خفية وأهواء غريبة لكنها مثل البوح الذاتي الذي يرنو إلى الانفلات من الكبت والتقاليد الدارجة إلى حرية الاختيار والتعبير عن رؤية مغايرة للسائد.
في أسلوبية يسرد فيها المخرج قصصه ومواضيعه بإيقاع هاديء رصين تتحكم بخصوصية المكان حيث تبدو مآذن المدينة في لحظات من التدرج الزمني داخل اليوم الواحد والتي تتفاوت بين لحظة الشروق والغروب ينجح سيلان في مواقف من الصور التي تتضمن صمتا بليغا غايته الكشف عن أسرار شخصيات أسيرة ألوان من العزلة والوحدة والتناقض بين عالمي المدينة والقرية وما فيهما من خواء وطموح ومفاجآت اللحظة الأخيرة.
اقل ما يوصف فيه الفيلم بأنه يعبر عن سينما راقية غير سهلة، رغم ما تبدو للناظر من الوهلة الأولى، لكن لدى تعمقه في مفرداتها يتبين حجم الاعتناء والدقة في اختيارات مواضيعه والقدرة على السيطرة على تلك التفاصيل الصغيرة في أبعاد زمنية وأجواء مكانية تتطلب خبرة ودراية متمرستين، وفوق هذا كله تلك الإدارة المحكمة التي يبذلها المخرج لفريق فيلمه من الممثلين رغم إن اغلبهم ليسوا من المحترفين الأمر الذي يجعل منه فيلم ينفذ بسلاسة إلى الوجدان والقلب على غرار الترنيمة الموسيقية أو القصيدة الشعرية.
على غرار كثير من اعمال جيلان، يحمل الفيلم جملة من محطات ومواقف التأمل هي اشبه بأسئلة تغوص بالبيئة المليئة بمفردات الاختلاف والتميز عن تلك السينما التي ينجزها مخرجون قادمون من بيئة مماثلة لتلك التي يعيش فيها مجتمعه وهو قطعا يقف إلى مسافة بعيدة عن التيار السينمائي الطاغي على خريطة بلده نظرا لخصوصيته الإبداعية التي تضرب في أعماق الفهم الناضج لوظيفة الفن السابع وتستلهم لقياتها من إبداعات مكرسة تكاد تتطابق في أسلوبية النهل من عناصر يزدحم منها الواقع لكنها تتنافر في هواجس وآمال وآلام شخصيات من أولئك البسطاء والأبرياء في محنتهم والراغبين إلى بلوغ درجة من الأمل.
تنهل كاميرا جيلان عناصر لغتها الجمالية والدرامية من داخل بيئتها المزدحمة بتضاريس الطبيعة وتلون الطقس وكأنها أشبه بترنيمة مشهدية للفن السابع أو لتلك الشريحة الاجتماعية من أبناء وطنه في حراكهم اليومي في مسعى دؤوب للتوكيد على ملامحهم الإنسانية المغمسة بأطياف من البؤس والعذاب والفشل لكنهم لا يلبثوا أن ينهضوا في محاولة أخرى لتجاوز معاناتهم كأنهم يحملون إرث اسلافهم والآخرين.