في سنة 2010 قدم المخرج التشيلي باتريشيو غوزمان، الذي يعتبر واحدا من اهم مخرجي السينما الوثائقية في العالم، فيلمه الوثائقي الرائع "الحنين الى الضوء"، الذي يتناول فيه حقبة من التاريخ الحديث لبلده تشيلي، وتحديدا تلك الفترة التي حكم فيها البلاد الديكتاتور اوغيستو بينوشيه بعد ان قام بانقلاب عسكري بمساعدة المخابرات الاميركية على رئيس البلاد الليندي المنتخب من الشعب وبأغلبية عالية، وذلك سنة 1973، وبعد أن أمضى الليندي في الحكم ثلاث سنوات قدم فيها الكثير لشعبه، الأمر الذي لم يرق للطبقة الرأسمالية الفاسدة واعوانها من داخل تشيلي وخارجها والتي كانت تحكم تشيلي قبل ذلك.
اهتمام المخرج بعلم الفلك والذي ابتدأ بوقت مبكر من عمره كان عاملا مهما دفعه الى ان يوظف هذا العلم في فيلم "الحنين الى الضوء"، فكل ما نشاهده على الشاشة من مشاهد يجري في الصحراء التشيلية اتاكاما التي تعتبر الاكثر جفافا في العالم، وبالتالي فهي الأكثر ملاءمة لرصد النجوم وما يحيط بالأرض من أسرار. لهذا الغرض بني هناك وبتعاون دولي أكبر مرصد فلكي في العالم. إضافة إلى ذلك، تتميز تلك الصحراء بطبيعتها التي تحفظ في باطنها شيئا من تاريخ الانسان الذي عاش فيها قديما، زد على هذا انها كانت مقبرة جماعية للوطنيين التشيليين الذين وقفوا بوجه ديكتاتورية بينوشيه (والتي ادانها العالم بأجمعه بما في ذلك المؤسسة الكنسية التي دعمته سابقا وكان سيقدم لمحكمة الجنايات الدولية لو لم يمت).
يتواجد في الفيلم، الذي يقدم التعليق عليه المخرج بصوته من خارج الكادر، علماء فلك وآثار وجيولوجيا، بالإضافة الى نساء تشيليات مسنات يبحثن في رمال تلك الصحراء عما تبقى من اثار أقارب وأحباء دفنوا هناك بلا أي مراسم دينية وذلك بعد عقود من سقوط بينوشيه وعزله.
بداية يتحدث كبير علماء الفلك في ذلك المرصد التشيلي غاسبار غالاز قائلا انه من الممكن ان نعتبر علم الفلك نظرة للماضي السحيق نعرف من خلالها تاريخ البشرية، متعاونين في هذا مع علماء الجيولوجيا والاثار، فهو اذن علم يبحث عن اجابات لأسئلة حائرة.
بعدها يحاور المخرج اناسا من داخل المرصد او من خارجه منهم من تعرض للقمع والاضطهاد أو كانوا على معرفة جيدة بما حصل، ثم وهو الأهم، يحاور العجائز اللواتي ما زلن يبحثن عن آثار اشخاص فقدوا قبل عقود، وهنا نلاحظ الربط الذكي بين حال العلماء في تلك الصحراء الذين يبحثون بلا يأس عن تاريخ الانسان البعيد جدا وبين حال النسوة اللواتي يبحثن وبلا يأس أيضا عن بقايا أقاربهن، فحال امرأة عثرت على ساق لإنسان يعز عليها، ربما مثل حال فلكي وجد كويكبا صغيرا في فضاء السماء الواسع.
في حديث للمخرج عن فيلمه هذا قال إن الحنين ما هو الا طريقة في التفكير تربط روح الشخص بالماضي، وإن هذا الفيلم جزء من نضاله من أجل إنقاذ وطنه من فقدان الذاكرة الثقافية عن طريق الربط بين تاريخ الانسان بشكل عام وتاريخ تشيلي السياسي بشكل خاص.
يمتاز الفيلم بمهنية عالية، خاصة في التغلب على صعوبة التصوير في تلك الصحراء (الجفاف والسراب) وصعوبة التصوير ليلا.
إيقاع الفيلم متوازن وهادئ، ويبرر المخرج هذا بحبه للمنحى الدرامي التقليدي في السينما، والذي يتضمن مقدمة وتطورا وذروة، وهو ما يترك اثرا في الفيلم الوثائقي يشبه ذلك الذي يتركه الشعر الذي ليس بمقدور أحد ان يتنبأ متى يظهر الفعل الشعري فيه، ولذلك فإن المخرج لم يكن لديه نص مسبق عندما صوّر وأجرى المقابلات مع شخصيات الفيلم الذين اتوا طواعية للمساهمة في هذا العمل المميز.
حصل الفيلم على تسع جوائز، منها جائزة أفضل فيلم وثائقي من مهرجان دبي السينمائي.