ترجمة: موفق ملكاوي، عن الصنداي تايمز
عندما كانت أغاثا كريستي (1890-1976) طفلة، كان يراودها كابوس دائم في الأوقات السعيدة والمناسبات اللطيفة؛ أوقات الشاي العائلية، الحفلات، والنزهات والرحلات، حيث تتفاجأ بظهور جسم مخيف من دون يدين، له نظرات فظيعة.
في الكتاب الذي ألفته لورا تومسن وراجعه بيتر كيمب، تروي المؤلفة أن كريستي قالت ذات مرة وهي تتذكر تلك الحوادث: "إنه قد يكون الأب أو الأم أو المربية، إنه شخص ما كنت تتكلم معه للتو. تطالع وجه الأم.. وبعد ذلك ترى العيون الزرقاء الفولاذية، ثم.. ومن خلال أكمام ثوب الأم يطل الرعب!".
إن اندماج الدفء مع الخطر، هو الحلم الذي تنبأت به 66 رواية جريمة و13 مجموعة قصصية، والتي جعلت من أغاثا كريستي ظاهرة أدبية عالمية، حيث باعت أكثر من بليون نسخة من مؤلفاتها باللغة الإنجليزية، إضافة إلى بليون نسخة أخرى في الترجمات.
لقد ساعدها الاستقرار المريح على الإبداع. وخلال سيرة حياتها التالية، احتفظت بالذكريات الحزينة لتربيتها الهادئة بين مجموعة من الفلل القديمة ذات الطابع الفيكتوري في منطقة (توروكوي)، وقد اشتهرت فيلتها بحدائق الورد والنجيل الأخضر والخدم وحفلات العشاء، فضلا عن مباريات التنس وحفلات الرقص والتنكر، إضافة إلى المغازلات الرزينة.
ووسط هذا الجو الرعوي الرائع، وعشية عيد الميلاد في العام 1914، تزوّجت بآرتشي كريستي, وهو ضابط شاب في الهيئة الملكية للطيران.
وعندما أخذته الحرب العالمية الأولى إلى فرنسا، تطوعت أغاثا للعمل كممرضة. وقد كانت صيدلية المستشفى هي المكان الأثير لديها، وهو المكان الذي أطلق خيالاتها الأقوى.
في ذلك المكان بالذات تعرفت على السموم للمرة الأولى، وانسحرت بها، فليس مستغربا إذاً أن يقع أكثر من ثمانين من شخوص رواياتها فريسة للسموم. فالزجاجات الملونة المحتوية على أنواع عديدة من الأدوية المخزنة حفّزت روحها باتجاه الأدب.
الكوكتيل القاتل من بروميد البوتاسيوم والاسترايكنين كانا سببا في موت الضحيّة في أول ظهور أدبي لها في العام 1920 من خلال "الجريمة الغامضة".
في تلك الرواية، وضعت كريستي طابعها المميز على الخدع التي خططت لها. ومن السهل عليها أن تفسد توقّعات القرّاء بجرأة، كما هو الحال في عرضها لقضية مقتل روجر أكرويد العام 1926.
زواج كريستي من آرتشي انهار في تلك السنة، وذلك عندما اعترف لها بحبه لامرأة أخرى، وبذلك فقد حولت كريستي طاقتها إلى تعقب ألغاز قضايا القتل المبهمة والمعتمة التي كانت تخترعها.
بنظام ملتزم، كان مخبرها هيركول بوارو يصل إلى الحقيقة دائما من خلال ملاحظة الأشياء التي تبدو في مكانها غير الملائم. أما الشرطية السرية الآنسة ماربل، فقد تم تقديمها على أنها نظير له، فبينما بوارو يحلّ الجرائم بالمنطق الاستنتاجي، كانت ماربل تعتمد على الحدس.
عناوينها تكشف عن "قاتلين مهذبين"، مثل: "جريمة في بيت الكاهن" و"جثة في المكتبة".
عنوان أحد كتبها المبدعة جدا، "بطاقات على المنضدة"، الذي جاء في العام 1936، يذكرك بأن الذي تستمتع به هو أساسا لعبة: لا يوجد قلق عاطفي أو نفسي ولا مذابح. كتبها لا تقلب المَعِدة، ولكنها تثير العقل.
وعندما يُطلب منها كتابة "جريمة قتل عنيفة، مع الكثير من الدماء"، تصدر "عيد الميلاد"، في العام 1938، والتي تصحبنا فيها إلى مشهد البطريرك المقتول بواسطة شقّ حنجرته مع عشرات الطعنات في جسده الملقى وسط بركة من الدماء.
قد تقول إن ذلك نموذجي، ولكن لا يبدو هذا، فالحبكة لا تعتمد على إراقة الدماء فحسب، ولكن على تحقيق هدفها لجعل القارئ نافد الصبر، ولذلك فقد أضفت ذخيرة فنية لا نظير لها من الخداع.
في كتبها، القاتل قد يكون الراوي أو الضحيّة التي كانت مقصودة، أو ربما شرطي التحرّي، أو أي واحد من المشتبه بهم.
تنفر كثيرا من استخدام الشخصية النمطية، غير أنها تلجأ إليها أحيانا عندما يناسب ذلك نمطها بمثالية، بما أن عين العقل تنزلق عنهم.
وبالنمط نفسه، يضمن نثرها البسيط بأن لا شيء يمكن أن يعرقل الارتباط بحبكاتها المعقّدة.
كتبها، في البداية، نشرت تحت الاسم المستعار ماري ويستماكوت، وهو ما يعزز أنه كان لديها مخاوفها الشخصية: ألمها من خسارة زوجها الأول، ارتباطها الكبير بأمها، علاقتها شبه المنقطعة مع ابنتها، وزواجها الثاني بعالم الآثار ماكس مالوان.. "أعشق الجثث والمتحجرات.. طمأنته عندما أخبرها بقلقه من أن اعتكافه مع البقايا الإنسانية قد يضعها بعيدا".
إن أعمال كريستي التي ترواحت في جذبها للمعجبين بتشبيهها بـ تي إس إليوت، بي جي ودهاوس، كليمنت أتيلي، وروبرت غريفز، تميل إلى أن تكون أقل تقديرا في الوقت الحاضر، لذلك لا بأس من التذكير بإنجازها الخالد: جبال الجثث الغامضة، وأكوام الأفكار والأعذار الهشّة التي لم تستطع الصمود، والتي صاغتها عاشقة الغموض والتضليل، لتعطي كثيرا من السرور والبهجة إلى ملايين القرّاء.
اشتكت كريستي، أحيانا، بسخرية من أنها تعبت من محققها البلجيكي المتأنق هيركول بوارو، ومن اعتزازه الدائم برضاه عن نفسه، بخلاياه الرمادية الصغيرة وشاربه الفاخر، ومع ذلك فقد كانت دائمة الدفاع عن صورة الشخصية التي ابتدعتها. لقد دعت ناشرها إلى رسم بوارو على الكتب، وقد كانت دائمة الانتقاد للممثلين الذين لعبوا دوره في الأفلام.
قالت ذات مرة "تشارلز لوتن كان لا يشبهه بتاتا"، ولكنها وجدت أن ألبرت فيني كان مقنعا في "جريمة في قطار الشرق السريع"، ومع ذلك لم يكن شاربه جيدا بما فيه الكفاية بالنسبة إليها.