يواجه غالبية الباحثين العرب والمتخصصين في الفلسفة العربية الإسلامية العديد من الإشكالات في هذا الحقل الفلسفي، أولها إشكالية التسمية، فهل هي فلسفة عربية أم فلسفة إسلامية أم كلاهما، وماذا يعني أن تكون إسلامية، هل هذا يعني أن هويتها دينية، وما حالها في عالمنا المعاصر؟ أحاول في هذا المقال تقديم طرح معقول يسعى للإجابة عن هذه الأسئلة ضمن ما أراه منصفًا لتاريخنا العربي والإسلامي.
حول كلمة فلسفة
يرد لفظ الفلسفة (Philosophy) إلى أصل يوناني، ويعني لغةً حب الحكمة. لكن هذا الأصل أثار إشكالية أخرى في عالمنا المعاصر وهي اعتبار أوروبا الوريث الشرعي الوحيد للفلسفة اليونانية وأدى ذلك إلى ظهور نزعة التمركز الأوروبي، وكان لهذا الإشكال ردة فعل بالعودة إلى أصل المخطوطات اليونانية، حتى أن بعض المفكرين بات يشكك في صحة نسبتها أصلًا إلى اليونانية، وذلك يبدو واضحًا بالرجوع إلى محاورة أفلاطون كراتيليوس، فقد ورد أنها ليست كلمة يونانية محلية وأنها دخيلة من البربر، وعندما يقال البربر فهم بالنسبة لليونان الشعوب غير اليونانية، وعادة ما يقصد بهم شعوب المشرق1. عمومًا حافظت الكلمة (فيلو_صوفيا) على نفس النمط من اللفظ في كل لغات العالم مع بعض الاختلافات، باستثناء اللغة الهولندية وتكتب "Wijsbegeerte". أدخلت الفلسفة إلى الحضارة العربية عن طريق الترجمات التي مرت بأكثر من لغة، وهي كلمة معربة وليست عربية أصيلة2.
أما من حيث المضمون، فالفلسفة تفكير إنساني يتطور ويختلف من حضارة لأخرى ويتأثر بظروف جغرافية ودينية وغيرها من العوامل، وإذا نظرنا إليها فقط ضمن المنظور اليوناني، وحصرناها في نمط معين (وهو نمط الفلسفة اليونانية) سيترتب على هذا الأمر تبعات خطيرة منها خروجها عن التعريف والحد الذي تم وضعه فإذا كانت تفكيرًا إنسانيًا فلماذا تم حصرها في الفلسفة اليونانية؟ وهل هذا يعني أن الفلسفة العربية والإسلامية لم تقم إلا بالارتكاز على الفلسفة اليونانية؟ وماذا عن العرب قبل معرفتهم للفلسفة اليونانية هل كانوا يفتقدون إلى الحس النقدي والتفكير الإنساني؟
إن فعل الفلسفة هو نظرٌ عقلي تميز به الإنسان عن دونه من الكائنات الحية، ومن غير المعقول أو المنصف اقتصاره على حضارة معينة أو على جنس بشري معين، فالتفكير والتأمل ملكتين إنسانيتين ليستا حكرًا لأحد، ومع ذلك لا بد من القول أن الفلسفة اليونانية طورت من أنماط التفكير الإنساني إلى حد يصعب مجاراته، وهذا ما جعل المفكرين يصفونها بالمعجزة اليونانية ولدرجة جعلت من الفيلسوف برتراند رسل يقول في تاريخ الفلسفة الغربية عن اليونان "فمهما قلتَ في الثناء على قدرتهم الابتكارية المبدعة في الأمور المجردة فلا أخالك تجاوز في الثناء حد الإنصاف وعلى هذا الأساس سأقول معظم ما أقوله هنا عن اليونان وسأعتبر أنهم هم الذين خلقوا التفكير النظري خلقًا"3.
وبالعودة إلى معنى الفلسفة، فعندما يقال حب الحكمة يجب الالتفات إلى أن الحكمة صفة إلهية وهذا ما حدا بسقراط إلى عدم الادعاء بالحكمة ذاتها وإنما قال أنه محبًا لها، أما في الشريعة الإسلامية فالحكيم هو الله، ومن هنا لا مفر من علاقة الفلسفة بالدين، على أن هذه العلاقة تكمن في أن كلًا منهما يسعى إلى الحقيقة والصواب ولكن الطريقة تختلف، ولكن من الممكن أن يتداخلا وهذه هي نقطة انطلاق الفلسفة الإسلامية.
الفلسفة عند العرب
إذن؛ كانت هنالك أنماط تفكير عربية وإسلامية ارتبطت بعلوم الشريعة قبل الشروع في عمليات الترجمة، ونشأ علم الكلام الإسلامي وهو علم يتناول المباحث العقدية ويرمي إلى الدفاع عن المعتقدات، ويعرف بالفقه الأكبر أو علم العقائد4، وتطور لاحقًا وقدم فيه الفلاسفة المسلمون آراءً مختلفة، ويمكن القول إن علم الكلام على علاقة وثيقة بالتفكير الفلسفي، لكن الفلسفة كحقل منفصل بدأت مع رسالة الكندي إلى الخليفة المعتصم بالله، وشرع الكندي يعرف بالفلسفة على أنها صناعة حدها علم الأشياء بحقائقها بقدر طاقة الإنسان5، وفي عصر المأمون ظهر اهتمام فلسفي كبير وقُدّمت الترجمات العربية عن السريانية واليونانية والفهلوية، وهنا تجدر الإشارة إلى المترجمين غير المسلمين من المسيحيين العرب الذين ما انثنوا عن تقديم الفلسفة اليونانية ضمن نصوص عربية أهمهم حنين بن إسحاق6.
ولاحقًا طرحت إشكالية أخرى حول جانب الأصل، فقد قدم فلاسفة مسلمون من أصل غير عربي فلسفات أصبحت تيارات لا يمكن تجاوزها في تاريخ الفلسفة مثل ابن سينا الذي بلغ منزلةً في الفلسفة لم يبلغها أحد سواه، وهو فيلسوف مسلم من بلاد فارس7، وهنا يبدأ التساؤل هل هي فعلًا فلسفة إسلامية، أم عربية أم ماذا؟
إن الإجابة عن هذا السؤال صعبة للغاية لأنها مرتبطة بمسألة الهوية وهي من أعقد المشكلات، فإن كانت هوية الفلسفة مرتبطة بالدين فما هو موقع الفلاسفة والمترجمين غير المسلمين، وإن كانت عربية ما هو موقع الفلاسفة غير العرب، خاصةً أن جزءا كبيرا من الفلاسفة ترجع أصولهم إلى بلاد فارس، هنا يجدر بي أن أقول أن العروبة ثقافة وليست محض لسان، وما ميز الثقافة العربية في جوانب معينة من عصر الدولة العباسية هو قدرتها على استقطاب العقول والناس من غيرها واختلاطها وتمازجها، نعم هكذا كانت ولم تكن إقصائية وقمعية، ما شجع على الإنتاج الفلسفي والفكري. عمومًا يجب أن أشير إلى أن قضية التسمية كانت قضية سياسية محضة، وتسمية فلاسفة الإسلام بهذا الاسم كان بسبب انتمائهم للدولة الإسلامية، أما في عصرنا الحالي فحالة الانتقاص من الفلسفة العربية الإسلامية ترجع إلى رواسب الاستشراق والتشكيك في النظر العقلي عند العرب والمسلمين.
اقتبس هنا من الدكتور جميل صليبا قوله عن هوية الفلسفة العربية الإسلامية: "إن الذين يجحدون وجود فلسفة عربية يثبتون وجود فلسفة إسلامية، بَيْدَ أن الإسلام، برغم كل ما نفذ إليه من العناصر الأجنبية، ظلَّ أثرًا من آثار العبقرية العربية، أما أن أكثر الفلاسفة من أصل غير عربي؛ فلا نكران له، لكن الذي لا نجد له مستساغًا هو القول بأنَّ الفلسفة التي يُسميها العامة فلسفة إسلامية ليست تستند إلى الجنس العربي، نحن نتكلم عن فلسفة عربية كما نتكلم عن دين عربي"8.
الإسلام شكل قاعدة ومنطلقا أساسيا لنشأة تيارات فلسفية حاولت الدفاع عن العقيدة الإسلامية مستعينة بالمنهج الفلسفي، وهنا أرمي إلى الإشارة إلى نقطة مهمة في تاريخ الفلسفة العربية والإسلامية وهي دور الفلسفة، فالفلسفة لم يتم تقديمها كبديل عن العقيدة أو خط مناقض للدين، فكل منهما له مجاله وفضاؤه وكانت الفلسفة هي المنهج آداة التفكير وليست عقيدة أو دوغما، وأما العربية فهي لسان وثقافة شملت لهجات عديدة وامتدت على بقاع شاسعة من الأرض، وليست حكرًا على عرق معين أو نسب معين.
سؤال الهوية وراهنيته عربيًا
وما أرمي له من هذه التساؤلات هو طرح سؤال الهوية في الوطن العربي، وربطه بـالتأصيل الفلسفي في عصرنا الحالي، فحالة الاستقطاب بين التيارات الفكرية عند المفكرين العرب تحتم أن أعيد التساؤل حول الهوية وضمن واقعنا الحالي، وهذا هو المشروع الذي يجب الاشتغال عليه بالإضافة إلى ضرورة إلحاقه بأطروحات مفاهيمية؛ أي أن نصنع مفاهيمنا ونؤسس لها. إلا أنني أؤكد حضور "فعل الفلسفة" بيننا، فطرح مثل هذه التساؤلات ومحاولة تقديم إجابة لها هو بحد ذاته جوهر الفلسفة، وهذا يعني استحالة طرح سيناريو موتها عربيًا ولكن هنالك حالة من التغييب.
فابن رشد عندما افتتح فصل المقال قال فيه "إذا كان فعل الفلسفة ليس شيئًا أكثر من النظر في الموجودات واعتبارها من جهة دلالتها على الصانع أعني من جهة ما هي مصنوعات فإن الموجودات إنما تدل على الصانع بمعرفة صنعتها، وإنه كلما كانت المعرفة بصناعتها أتم كانت المعرفة بالصانع أتم وكان الشرع قد ندب إلى اعتبار الموجودات وحث على ذلك، فبين أن ما يدل عليه هذا الاسم: إما واجب بالشرع وإما مندوبٌ إليه"9.
والنظر في هويتنا هو واحد من أهم الأسئلة التي يفرضها واقعنا الحالي، خاصة في مرحلة ما بعد الاستعمار، أما محاولة تطوير نسق فلسفي عربي إسلامي دون هوية فهي فاشلة حتمًا، خاصة أن الدولة الحديثة اعتمدت التعددية واحدًا من أسسها، ومن هذا المنطلق ستبعث الفلسفة بروح جديدة، وستليها إعادة صناعة للمفاهيم، وهي مرحلة معقدة جدًا لأن المفهوم لا يمكن استبعاده عند بناء أي مشروع فلسفي، ومن ثم التأصيل للنظريات في المباحث الفلسفية الثلاثة (الوجود والمعرفة والقيم)، وكل نظرية هي بالضرورة ذات ارتباط بواقعنا، وهنا بإمكاني الحديث عن راهنية الفلسفة، وهي الحاجة الملحة لها عربيًا ولا يوجد أي مسوغ أو حجة لتأخير حضورها.
1. أفلاطون، كراتيليوس، منشورات وزارة الثقافة الأردنية، صفحة 149.
2. الطيب بوعزة، في دلالة الفلسفة وسؤال النشأة، مركز نماء للبحوث، صفحة 39-40.
3. برتراند رسل، تاريخ الفلسفة الغربية المجلد الأول الهيئة المصرية العامة للكتاب، صفحة 84.
4. رضا بنجكار، علم الكلام الإسلامي، دراسة في القواعد والمنهج، مركز الحضارة لتنمية الفكر الإسلامي، صفحة 19-20.
5. الكندي، كتاب الكندي إلى المعتصم بالله في الفلسفة الأولى، تحقيق أحمد فؤاد الأهواني، دار إحياء الكتب العربية، صفحة 77.
6. ت.ج. دي بور، تاريخ الفلسفة في الإسلام، ترجمة محمد أبو ريدة، وزارة الثقافة الأردنية، صفحة 65.
7. دليل أكسفورد في الفلسفة، تدهنرتش، هيئة البحرين للثقافة والآثار، صفحة 46-47.
8. الشيخ مصطفى عبدالرازق، إمام الأزهر الشريف في كتابه تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية، مؤسسة هنداوي، صفحة 20.
9. ابن رشد، فصل المقال في تقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال، مركز دراسات الوحدة العربية، صفحة 85-86.