يناقش ألن هاو في كتاب النظرية النقدية تموضع الذات في الفترة التي أصبحت نظرية مدرسة فرانكفورت تمارس ما أسماه هاو النقد المحايث الذي يفرق بين الماهية والوجود على حد التعبير الهيغلي، والماهية هي إمكانية تحقق شيء مما وإنجازها وفق شروط معينة، وعدم تحقيق هذه الامكانيات يحيلنا الى الماهية وهي الحالة الآنية. ويتيح لنا هذا النقد الممنهج تصفية ما يمكن نقده على اعتبارات شخصية او أكاديمية متحيزة :
"النقد المحايث يفترض مسبقاً وجود معايير تكون حاضرة في الوضع أو الحالة ذاتها، معايير تحكم من خلالها الحالة على ذاتها، وتتساءل إذا ما كانت تلبي سبب وجودها وتفي به. وبذلك يكون مسعى النقد لأن يشد الواقع صوب ما ينبغي أن يكون عليه، صوب ما هو محايث له وما يبدو عليه، إذا ما كانت جميع الأشياء الأخرى متكافئة ومتساوية."
وما يميز نظرية مدرسة فرانكفورت هو تناولها للذات في العصر الحديث. فقد نهضت من أنقاض الحكم النازي والشيوعية السوفيتية الى عولمة الاقتصاد والنزعة الأمريكية الاستهلاكية.
يعتبر هربرت ماركوزه وثيودور أدورنو، ماكس هوركهامير، وأريك فروم من أبرز منظرين الجيل الأول من النظرية، ويسرد لنا ألن هاو في الفصل الأول من الكتاب تجربته في تناول كتاب هربرت ماركوزه " الأنسان ذو البعد الواحد". رأى ماركوزه أن الأفراد أصبحوا يتسمون فكرياً ببعد واحد بسبب منهج العلوم الوضعي Logical positivism عن طريق اعتماد الفرد على التسليم بالأفكار العلمية والاستنتاجات وكأنها حقائق مطلقة لا تخضع للتحقيق، وهذه التوابع تحيل الفرد إلى اقصاء عنصر التأمل الذي اعُتبر لدى ماركوزه وسيلة لفهم ديناميكات حركة الفكر والعالم، والتسليم دون تامل يعني حسب وصف ماركوزه "تخلي العقل عن عرشه".
حصر ماكس هوركهايمر مجالات بحث النظرية النقدية في ثلاث نطاقات بعلاقتها بالفرد; الاقتصاد السياسي ودور الاقتصاد وتطبيقه في المجال السياسي في التحكم بالمجتمع والأفراد بشكل يجعل تنظيم الأفراد ودمجهم في المنظومة الاقتصادية سهلاً وتنظيم النقابات العمالية هو مثال على ذلك. علم النفس الاجتماعي يبحث علاقة الفرد بغيره من الأفراد وتبين سببهم دورهم من عدمه الحراك الاجتماعي، دون اغفال العامل النفسي، وقد تعمق اريك فروم في هذا جانب، ويوضحه بمثال سبب قيام الثورة الفرنسية على الرغم من عدم سوء الوضع العام الاقتصادي، بمقارنة بدول أخرى أكثر هشاشة ولكن لم تشهد مثل هذا الأمر. والعامل الثقافي هو دراسة صناعة الثقافة ودور المنتجات الثقافية في التأثير على الفرد وإدماجه في المنظومة، ولقد تعمق ثيودور أدورنو في هذا الجانب.
أدورنو وصناعة الثقافة
في المقالة المعنونة "صناعة الثقافة: التنوير بوصفه خداعاً جماهيرياً (1972)"، يرى كلا من أدورنو وهوركهايمر أن صناعات الثقافة مثل الموسيقا والسينما والأدب أصبحت تفقد صفتها الشعبوية التي تكون مستمدة فعلاً من حياة الناس وتعبر عن عواطفهم، وقد أصبحت ترتكز بشكل أساسي على الربح:
" الربح لم يعد عنصراً غير مباشر في إبداع العمل الثقافي، لقد غدا كل شيء. وهو يعبر عن نفسه من خلال " الأولوية الواضحة غير المموهة التي تحوزها الفعالية المحسوبة بدقة وعلى نحو مفصل".
ويبين كيف أن التغيير الحاصل على نمط إنتاج البضائع قد أحدث تغييراً سلوكياً:
"لقد ميزت الخطوة من الهاتف إلى المذياع ذلك التمييز الواضح بين الأدوار (أدوار الوعي الفردي) فالأول أتاح للمشترك أن يلعب دور الذات، وكان ليبرالياً. أما الثاني فهو ديمقراطي: يحول كل المعنيين إلى مستمعين ويخضعهم ذلك الإخضاع السلطوي لبرامج إذاعية واحدة".
وهذا ما قد يحيل الفرد إلى دور أقل فعالية واشتباكاً وتأمل، وأكثر انصياعاً وتقبلاً للوضع القائم كما هو عليه، فصناعة الثقافة تخدم نظاماً يهدف إلى زيادة الربح دون اعتبار تلامسها مع نوازع الفرد الأصيلة، فالسؤال عن منطقية وشرعية غاية معينة في هكذا نظام تصبح بلا أساس، ويكتفي الفرد بدور وظيفي يُقوم بأداء دوره على ما أكمل ما يجب. وهذا ما يُطلق عليه مصطلح "التشيء". الا ان الأمر قد لا يقف عند هذا الحد، فقد يصبح الفرد بغالبيتهم مستهلكين وينمو لديهم ما اُطلق عليه " الفيتشية السلعية" وهي حين ينظر الفرد إلى المنتجات في إطار يصبح جزء من جوهره، غير قابل للاستغناء عنه، يتناسى بشرية المنتج ويعطيها طابع قدسي، وهذه أشد مراحل النزعة الاستهلاكية أحادية لبُعد.
هل من مخرج للفرد من هذه الغابة المُوحشة؟
قد يرى البعض أن منظري الجيل الأول متشائمين إلى أقصى حد حيال المجتمع واحتمالية ان تتوافر إمكانية انعتاق وتحرر العقل من هذه "الشيئية" و"الفيتشية السلعية"، ومع بروز البنيوية تفاقم الوضع سوءاً حين أُطلق مصطلح "موت الذات" للإشارة إلى ان الفرد عبارة عن مجموعة خطابات مؤسسة تشكل ذاته، وأن ما يحكم علاقات المجتمع والقوة هو تأسيس واستعمال هذه الخطابات، فالمريض لا يشك بسلطة وقوة الطبيب عن طريق الخطاب المؤسس عن الطبيب ذاته. الا ان يورغن هابرماس وهو أحد أبرز منظري الجيل الثاني من النظرية، كان أكثر تفاؤلاً حيال إمكانية وجود إمكانية للتحرر. وعن طريق منهج يعتمد البنيوية واللغويات الاجتماعية، فقد أطلق ما أسماه " التواصل الفعال" وهو عبارة عن فضاء من التواصل بين أفراد يتيح لهم الوصول إلى الحقيقة التي تسهم في الارتقاء والتطور المجتمعي. وقد أورد ذلك في فكرة الفضاء العام و الخاص.
الفضاء العام والخاص
في القرن السادس عشر في أوروبا، حين يتم تناول أفكار تتعلق بالسياسة والاقتصاد كان يتم حصرها في معظمها في البلاط الملكي وطبقة النبلاء، ولكن مع بروز البرجوازية، وظهور الصالونات الأدبية وتحسن أوضاع الفرد بشكل يتيح بيئة أفضل لبلورة أفكارهم، فقد أصبح يتم مناقشة هذه الأفكار أو بالأحرى نقلها إلى الفضاء العام، حيث يستطيع الجميع ان يناقش هذه المواضيع التي كانت محتكرة. وهذا ما ادى لاحقاً إلى تطور جذري وثوري في المجتمعات الأوروبية. ولا يغفل هابرماس سطوة الإعلام الحديث على تخصيص القضايا التي يتم تناولها وتشكيل رأي للأفراد عنها في النظام الاستهلاكي، ولكنه متفائل أيضاً ان وجود أرضية "التواصل الفعال" تكون حاضرة حتى لو لم نكن مدركين لها، وأنه يًشترط ان ما يتم تناوله حقيقي ومنطقي وقابل للتطبيق لمخرجات أفضل.
النقد ما بعد الحداثي للنظرية النقدية
تناول ألن هاو مفكرين من عصر ما بعد الحدثي وهما ليوتار وبودريار، يشارك بودريار أصحاب النظرية النقدية من الجيل الأول رأيهم في تشاؤمية الوضع القائم في المجتمع الاستهلاكي، ولكنه لا يرى بديلا عن ذلك، فإذا كان الاستهلاك حتمي فهو ليس بالضرورة أحادي البعض وقد يستطيع الافراد ان يستهلكوا بشكل يجعلهم مميزاً،
أما ليوتار فهو لا يرى بوجود مجتمع مثالي او تقدمي في نهاية المطاف، وفكرة وجود حقيقية تُقارن بالأوضاع السائدة في المجتمع الاستهلاكي هي فكرة ميتافيزيقية، وهذا ما يميز المجتمع ما بعد الحداثي، وهو أنه لا يقبل أي مرجعية أو جوهر معين، فهو "شكل بلا شكل".