هناك تحديات أو تهديدات دائمة تحيط بالأفراد والجماعات وتشترك كلها في معني وتوجه واحد ألا وهو التحديات الوجودية التي تهدد وجود أو حياة الفرد والأمة، البشر جميعا في صراع وجودي دائم منذ القدم. هذا الصراع تتغير أشكاله ولكن يبقي جوهره واحد. فوجودنا في الحياة مرهون بقدرتنا على التغلب على التهديدات الوجودية. والتهديدات ليست فقط خارجية من الطبيعة، ولكنها تهديدات بين البشر بعضهم البعض. لذا هناك دائما معارك معلنة أو غير معلنة للتطور الحضاري ومن يكسب المعركة يضمن وجوده الفعال إلى حين. أما الانزواء والانطواء فهو نزير سوء بالانقراض والاختفاء من على مسرح الحياة. لذا بدلا من أن نكد في البحث عن التهديدات علينا أن نوجه كل طاقاتنا وقوتنا نحو تحدي واحد دائم ومستمر وهو التطور الحضاري. لسنا في حاجة للبحث عن أعداء فالعدو الحقيقي ظاهر للألباب ألا وهو ترك أدوات العقل والعلم والتخلف عن الركب الحضاري الذي لن يتوقف كي ينتظر المتكاسلين هذا هو بلا شك التحدي الأكبر.
هناك تهديدات عديدة تحاصر الأفراد والجماعات وتكاد نعصف بوجودها. ولكي نحافظ على وجود الفرد أو الأمة يجب أن يكون هناك وعي وفهم لهذه التهديدات وقدرة فكرية وتنفيذية لمحاصرتها وإيقاف مفعولها. في الأصل لا يوجد فارق كبير بين التحدي على مستوي الفرد ومستوي الأمة، فكلاهما خطر يهدد الوجود سواء أكان فرديا أم جماعيا. لكن التحدي على مستوي الأمة قد لا يعني بالضرورة تحد على مستوي الفرد، فقد يكون هذا التهديد ضد فكرة الجماعة ذاتها. فمثلا التهديد الذي واجه الأمة الألمانية في غضون حكم هتلر لم يكن موجها لكل أفراد الشعب الألماني، ولكنه كان ضد عقيدة النازية التي انتهت بنهاية الحرب العالمية الثانية. لذلك لم يصبح هناك تهديد بين الأمة الألمانية وأمم المعسكر المضاد بعد نهاية لحرب.
الفرد والجماعة والتحديات الدائمة
يميل الكائن الحي للعيش في جماعات حتى يحمي وجوده الفردي. وقد ارتبط الوجود الفردي للإنسان بوجوده الجماعي علي أساس وطني أو جغرافي أو عرقي وثقافي وتاريخي نتيجة لحياة هذه الجماعة في مكان واحد. هذا الارتباط بين الوجود الفردي والوجود الجماعي هو ارتباط شديد الوثوق ويتغلغل لأقصي أغوار الإحساس الوجداني للأفراد مهما اختلفت أو تغايرت ثقافاتهم ومشاربهم. والحقيقة فقوة الوجود الجماعي تعزز قيمة الوجود الفردي كما أن قوة الوجود الفردي تعزز قيمة الوجود الجماعي، فالأفراد الذين ينتمون لدولة أو أمة قوية يتمتعون بوجود مادي ومعنوي هائل بسبب هذا الانتماء، كما أن الأمم تفخر ببعض أفرادها الذين لهم تميز عالمي لأن قوة والوجود الفردي تدعم الوجود الجماعي للأمة. من هنا تهتم الأمم بالمنافسات الرياضية حتى يتفوق أبناءها فيضيفون قوة لوجودها الجماعي... وربما يفس هذا النشوة الهائلة التي يحس بها جموع الناس علي مختلف مشاربهم عندما يحقق فريقا يلعب في منافسة رياضية نصرا عالميا... وكذا يتحقق نفس الأثر عندما يحصل أحد أفراد الأمة علي جائزة علمية مرموقة مثل جائزة نوبل..
التحديات التي تواجه وجود الأمم والجماعات والأجناس متعددة الأطياف ضاربة في جذور التاريخ...وكانت هذه التحديات تشمل الاقتلاع الجغرافي الطبيعي لأحد الجماعات أو الأعراق ولكن الخطر الآن يتمثل في البعد الحضاري والذي قد يحدد في النهاية من يعتمد على من ومن يمتلك مفاتيح القوة ومن يؤثر أو يتحكم في من.
تحليل معني التحدي
يتكون أي حدث في الحياة من شقين أساسيين أو فعلين أساسين. نطلق علي الأول (الفعل) والثاني (رد الفعل) أو نطلق علي الأول (القوة) والثاني (المقاومة). فيقول القانون الثالث لميكانيكا نيوتن (لكل فعل رد فعل مساوي له في القوة ومضاد له في الاتجاه). وهذا القانون الذي يحدد العلاقة بين الأجسام المتحركة ينطبق على أحداث الحياة لأنها أيضا تعبر عن أجسام متحركة ولكنها ليست في بساطة الأجسام غير الحية. فإذا حددنا ما هو الفعل الأساسي في الحياة لكان هو المؤثر الذي يتوجه نحو الكائن الحي. وقد يكون هذا المؤثر بناءا أو هداما. وفي حالة التحدي يكون المؤثر هداما فنطلق عليه (التهديد) لأنه يهدد وجود الكائن الحي بأي معني من المعاني وعلى الفور يتكون رد الفعل والذي نطلق عليه (التحدي) إذن فالصراع هو بين قوة تهديد ومقاومة تحدي. ولكن جرت العادة أن نطلق على الإثنين (الفعل ورد الفعل) كلمة (التحدي) ونقصد هنا أن الفعل هو (تهديد) يأتي من خارج الإنسان ورد الفعل هو (تحدي) يأتي من داخل الإنسان. أي أنه صراع بين تهديد خارجي وتحدي داخلي.
إذن التهديد الوجودي هو الفعل الذي يشعل الصراع الوجودي وهو الذي يخلق رد الفعل أو بمعني ولفظ أقوي هو ما يخلق التحدي. فكأن ظاهرة الوجود هي ظاهرة محمية بآلية قوية للدفاع عنها هي آلية التحدي. وهذه الآلية هي التي تستخرج من الإنسان كل طاقته.. وتستنفر كل ملكاته عندما يشعر بأي تهديد لوجوده... وهذا التهديد الوجودي ليس أمامه إلا خيارين وهما (أكون) أو (لا أكون).. أي أن أستمر في الحياة أو أتوقف عنها. والاختيار الأول هو اختيار غريزي يكاد يكون مطبوعا علي الجينات الوراثية للكائنات الحية لذا نراها دائما تتحدي التهديدات..
التحدي والتنافس
أحيانا لا يتوقف رد فعل الإنسان في التحدي للوصول فقط لدرء الخطر عنه بمعني أن يكون الفعل مساوي لرد الفعل وهو أن يلغي أثر هذا التهديد، ولكنه قد يسعي للتفوق بدرجة كبيرة على التهديد. فمثلا يعتبر أي امتحان هو تهديد لوجودنا وعلينا أن ننجح حتى نثبت وجودنا في محيط الحياة المجتمعية. فإذا نجحنا فنحن موجودين وإذا فشلنا تعرضنا لخطر عدم الوجود أو حتى التهميش. ونحن عند أي امتحان لا نسعى فقط للنجاح ولكن نسعي أيضا للتفوق. فالسعي للتفوق يتم في إطار ظاهرة التنافس مع الآخرين وليس فقط رد الفعل للخطر القادم نحونا وهو الامتحان. ففي إطار المجتمع هناك خطرين الأول هو خطر الامتحان في حد ذاته والخطر الثاني هو خطر الآخرين الذين يدخلون نفس الامتحان. فتفوقهم في رد الفعل قد يكون أيضا خطر علينا.
الطريق للخروج من المأزق.
بلا شك أن تحديد وتوصيف التحدي والقناعة الفردية والمجتمعية بأنه التحدي الحقيقي هو الذي سيضمن نجاح الخطة الإستراتيجية للتغلب على التحدي. فالقوي الفكرية لأي مجتمع هي قوة هائلة إذا أحسن توظيفها ووضعها في ميدان المعركة الحقيقية وهي معركة التقدم الحضاري. وهذه الخطة تحتاج استعراض وتحليل مقومات القوة التي يتميز بها الفرد والمجتمع وكذا بقاع الضعف وتوظيفها جميعا التوظيف الصحيح علي خارطة التهديدات العالمية والتي تندرج جميعها تحت عنوان واحد وهو التهديدات الحضارية وهذا يحتاج بحث قادم ومقالة منفردة مفصلة في القريب العاجل.