استخدمت لفظة الأسطورة على مدار عصور الأدب العربي في دلالات مختلفة بيّنت الطبيعة الفكرية لأهل ذلك العصر والمسار الذي تسلكه اللفظة تبعًا لاتساع دلالتها وانحصارها، ففي حين أنها اكتسبت معنى عامًا في معجم لسان العرب لتدل على "الأحدوثة والأحاديث" ، كانت اختصت بدلالة سلبية في المعجم الوسيط لتدل على "الأباطيل والأحاديث العجيبة" إذ اكتسبت اللفظة دلالتها الخاصة من القرآن الكريم فقد وردت فيه في معرض الحديث عن خوض الكافرين في الباطل وتكذيبهم للتنزيل الكريم كما في قوله تعالى " وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آَيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ " ، ورغم أن مفهوم الأسطورة في كتب اللغة والقرآن ظل لصيقًا بالخرافة والخيال، إلا أن المسار الزمني الذي أخذت تسلكه لفظة الأسطورة في الأدب العربي كان كفيلًا بتشكيل انزياح دلالي يخرج بها عن إطارها اللغوي المعجمي لتتحول إلى مصطلح أدبي خاص يشير إلى "حكاية قدسيّة وقعت في زمن البدايات"، أو حكاية فلسفية سعت لتفسير كثير من الظواهر الكونية والمسلمات الفكرية والدينية المنبثقة عن الوجود الإلهي والفطرة الإنسانية التي تنزع للتوجه نحو إله يتمتع بقوى مطلقة تكفل له الحماية وسبل الحياة المختلفة، ولعل هذا الانزياح الدلالي أهّل الأسطورة لتنسجم في الأجناس الأدبية والفنية المختلفة بما تتيحه طبيعتها الرمزية من تشكيل كم دلالي غير متناه يخدم تجربة الكاتب ونظرته الذاتية للفكر الموروث.
مفهوم الأسطورة في الأدب العربي القديم
خضعت الأسطورة في بدايات ائتلافها في الآداب العربية للمفهوم المعجمي الأصلي الذي منح لها في القرآن الكريم وكتب اللغة بدلالتيه: العامة التي تشمل الأحاديث والمرويات، والخاصة التي تقوم على الخيال والأحاديث الباطلة والمكذوبة، ولعل هذا المفهوم كان خدم الأدباء وهيأ لهم من الفنون ما تنفرد به ذواتهم وتعزز فيه تجاربهم الإبداعية، لاسيّما أنها كانت مستقاة من وحي البيئة العربية بما تحمله من عادات وموروثات فكرية، فتبدّت في الأدب الجاهلي بمفهومها العام "فشملت ما ورد عن الرواة من تراجم لشعراء الجاهلية" كامرئ القيس وصراعه على ملك أبيه فبدت قصته أشبه بأساطير الآلهة اليونانية وصراعها على الملك والاستحواذ على السلطة، إضافة إلى تلك التسجيلات التاريخية التي لا تخلو من المبالغة كمجريات حرب البسوس ووقائعها، لا سيّما أنها أُرّخت عبر الشعر الذي لا يخلو من مبالغة وانحياز عاطفي وتعتيم وما إلى ذلك مما يسلكه الشعراء، بينما بدت الأسطورة في أدب أبي العلاء المعري في رسالة الغفران بمفهومها الخاص من خلال ما ابتدعته ذاته من رحلة إلى العالم الآخر وإقامة الحساب للشعراء كل وفق شاعريته مأخوذًا بتوجهاته الفكرية والنقدية الخاصة التي ترتكز بشكل أساسي على ذائقته الشعرية، وقد استلهم حبكتها ومجريات أحداثها من الموروث الفكري الديني الإسلامي كما في قوله: "وينظر الشيخ في رياض الجنة، فيرى قصرين منيفين، فيقول في نفسه: لأبلغنّ هذين القصرين فأسأل لمن هما، فإذا قرب منهما رأى على أحدهما مكتوبًا: (هذا القصر لزهير بن أبي سلمى المزني)، وعلى الآخر: (هذا القصر لعبيد بن الأبرص الأسدي)، فيعجب من ذلك ويقول:
"هذان ماتا في الجاهلية، ولكن رحمة ربنا وسعت كل شيء، وسوف ألتمس لقاء هذين الرجلين فأسألهما بم غفر لهما"
لقد بدا مفهوم الأسطورة في الأدب القديم مفهومًا إبداعيًا على المستويين: الفكري بما تتضمنه الأسطورة من نسج خيال واصطناع أحداث، والفني المتمثل باللغة والتضمين الأدبي للفكرة المبتدعة فكانت الأسطورة تبعًا لذلك قد بلغت أوج نهضتها بما شكلته من تجربة ذاتية محضة.
مفهوم الأسطورة في الأدب العربي الحديث
انزاح مفهوم الأسطورة في العصر الحديث ليكتسب دلالة أكثر خصوصية فأصبحت محصورة في رموز قصصية محددة تدور أحداثها حول صراع الآلهة ووظائفها الكونية كأسطورة الفينيق وأسطورة بروميثيوس وأوديب وما إلى ذلك، وعلى الرغم من أنها لم تتجاوز الفكر المقتبس إلا أن كثيرًا من الأدباء قد تمكنوا من توظيف دلالاتها الرمزية في أدبهم وتوجيهها بما يوائم تجاربهم الشعرية وانفعالاتهم الفردية حتى بدت في حس دلالي مختلف يتجاوز الفكرة المجردة المتمثلة في صراع الآلهة لتصور صراعات إنسانية أخرى لا تقل في عظمتها وقداستها عن صراعات الآلهة اليونانية، فها هو إيليا أبو ماضي يستعين بأسطورة بروميثيوس في قصيدته (أمنية الآلهة) في محاولة منه لتصوير واقع الإنسان وكفاح الشاعر في حمل معاناته، فيقول:
وكان إلهًا جامـــــــحًا متضــــرمًا هوى وأتى بالمعجزات الغرائب
كســـــا الأرض بالزهــر البــــديع ورصّع آفاق السماء بالكـــواكب
وما زال حتى علم الطير ما الهوى فحنّت وغنّت في الذرى والمناكب
وعلى العكس من إيليا أبي ماضي الذي تطرق إلى الأسطورة بمفهومها الاصطلاحي المعروف بصورة مباشرة، يحاول بدر شاكر السياب أن يمنح القوة لشعره بما يبثه في ثناياها من روح أسطورة عشتار لتتحول الأسطورة عنده إلى صورة محضة تخلق امتدادًا زمنيًا يكون لشعره إكسير خلود يضمن له حق العبور التاريخي، ففي قوله:
عيناك غابتا نخيل ساعة السحر
أو شرفتان راح ينأى عنهما القمر
امتثلت محبوبته في صورة عشتار مكتسبة نوعًا من الخصوصية الجمالية والقوة التي انفردت بها دون غيرها.
وقد تتجاوز الأسطورة مفهومها المتوارث كليًا لدى بعض الأدباء لتكتسب طابعًا حلوليًا أشبه بالمنظور الحلولي عند المتصوفة، إذ تحل شخصيات الأسطورة في أجسادهم لتكسبها حسًا خارقًا وقوة غير اعتيادية تمنح الشاعر تفرده بين الشعراء وتميزًا خاصًا لا يليق بغيره كما هو الحال لدى الشاعر علي إسبر الذي أطلق على نفسه لقب (أدونيس) حتى عرف واشتهر به ليمنح شعره القدرة على خلق العودة والتجديد والتغيير في مسيرة الشعر العربي، وهو على الرغم من تمثل شخصه في أسطورة أدونيس إلا أنه لم يغض الطرف في شعره عن سائر الأساطير اليونانية والعربية المتوارثة وإنما حاول استثمار أسطورة أدونيس في محاولة منه للتأثير على سائر الشخصيات الأسطورية وأحداثها في سبيل إبراز قدرة الذات على تحطيم الموروث وهدم بنيانه الداخلي وإعادة خلقه من جديد بما يوائم معطيات العصر والذات الشاعرة وتجربتها الخاصة، ففي قوله:
عرف الآخرين
فرمى صخرة فوقهم واستدار
حاملًا غرة النهار
يعكس مفهوم الأسطورة التقليدي بتحريفها وتغيير مجريات أحداثها جاعلًا لأسطورة أدونيس التي تتمثل في روحه هيمنة بالغة الأثر على أسطورة سيزيف المتوارثة، فسيزيف هذه المرة يتمرد على عذابه ويلقي بصخرته على الآخرين محققًا بذاته تطهيرًا إنسانيًا يشبه إلى حد كبير التطهير الذي عرف عند آلهة اليونان قديمًا.
لقد سرى مفهوم الأسطورة عبر عصور الأدب المختلفة في منحنى دلالي يضيق وتحد فيه قيمته المتوارثة كلما تقدم به الزمن نحو الآتي، فمن الذكر المجرد العابر الذي لا يتجاوز المعنى المعجمي للفظة، إلى الإبداع والابتكار الأولي الذي حققه شعراء الأدب العربي القديم، إلى التناص والانزياح الدلالي والحلولي لدى الشعراء المعاصرين حتى شكلت الأسطورة مركزًا مفهوميًا تنبثق عنه عميق الدلالات المكتسبة بفعل التجربة الشعرية والمسار الزمني التطوري لدلالات الألفاظ