"لا شك في أن مفهوم الأيدولوجيا من أكثر المفاهيم شيوعاً وتداولاً ولكن معناه من أكثر المعاني إثارة للجدل. ومن ثم هو أقل المفاهيم ثباتاً. فهو عند البعض مفهوم علمي، وعند آخرين مبهم ومبتذل، بل يمكن أن يكون سُبة. يقول ريمون أرون إن الأيدولوجيا ((فكرة عدوي)). وهذا الوضع يظهر أن المفهوم نفسه أصبح موضوعاً لعملية أدلجة (ideologization) مكثفة."
يتناول المفكر اللبناني عبد الغني عماد في كتابه "سوسيولوجيا الثقافية" الأيدولوجيا كمقاربة لفهم فكر المجتمع، فيقول أن التوظيف الأولي لها هو طريق المفكر الفرنسي ديستوت دي تراسي (1754-1836) الذي كان ينتمي إلى وسط المثقفين الفرنسيين ذوي النزعة الأنوارية، أي التي ترتبط بدراسة أصول الأراء والأفكار وطبيعتها وتطورها. وهي بذلك ترتبط بالمنهج العلمي الوضعي المتأثر بالمدرسة التجريبية الإنجليزية، إذ رأى مثلاً الفيلسوف الفرنسي كونديلاك أن الأحاسيس هي مصدر الأفكار، في مشابهة واضحة لتشبيه جون لوك المعرفة واكتسابها بالصفحة البيضاء والتي تكتسب عن طريق التجربة المباشرة.
الأيدولوجيا عند كارل ماركس
يرى عبد الغني عماد أن كارل ماركس أعطى بداية مفهوماً شاملاً وملتبساً للأيدولوجيا. ففي كتابه الأيدولوجيا الألمانية يتحدث عن (( الأخلاق والدين والميتافيزيقا وسائر ما تبقى من الأيدولوجيا )) إنما هو بالتخصيص القانون والسياسة والأفكار والتصورات ووعي الناس للأشياء والمجتمع وأخيراً اللغة التي تستخدم لإدخال هذا (( الإنتاج )) الروحي أو العقلي في الفكر والسلوك.
الوعي الزائف وامتداد التقليد الماركسي
برز مصطلح "الوعي الزائف" مع المفكر الماركسي جورج لوكاش في كتابه التاريخ والوعي الطبقي History and Class Consciousness (1923)، وتم تداول المصطلح لاحقاً مع مفكرين آخرين مثل هربرت ماركوزه. يشير المصطلح إلى غياب إدراك الطبقة الدنيا أو البروليتاريا عن مصالحها الحقيقية، وأن غياب الإدراك ينبع من هيمنة إيدولوجيا الطبقة المسيطرة على المجتمع، فيصبح وعي البروليتاريا هو انعكاس لوعي الطبقة العليا، ما يضمن استمرارية مصالحها من جهة، ويتم ذلك بطبعنة عملية فائض الربح ونتيجة عدم المساواة التي تنتجها، ويكون إدراك المشكلة والحل غائباً وتكون بذلك الأيدولوجيا زائفة، فتصبح الأيدولوجيا خارج مفهومها التعميمي في إطار وعي شامل على مستوى الثقافة، فتصبح مجزئة لتعبر عن أفكار طبقات ومصالحها. وأصبح يتم تداول نفس المنهجية لتعبر مناهج فكرية تحررية عن عملية القمع والسلطة التي تخضع لها.
كيف تنتج الطبقة المسيطرة إيدولوجيتها في المجتمع؟
يرى أنطونيو غرامشي (1891-1937) أن المجتمع المدني هو القالب الذي تنشر به السلطة إيدولوجيتها، والمجتمع المدني هو المدرسة والكنيسة والإعلام والنقابات ومختلف المؤسسات المجتمعية. وهذه المؤسسات تقوم بعملية أدلجة للأفراد بشكل يؤطر النظام القائم. وحتى مع تغير السلطة القائمة فهذا لا يعني بالضرورة تغير آلية إدارة المجتمع المدني. وقد بين غرامشي أن سبب حدوث ثورة في روسيا وليس في اوروبا الغربية مثلاً هو بسبب ضعف المجتمع المدني في روسيا، وتجذره في أوروبا كأيدولوجيا سائدة.
ويستعرض غرامشي دور الدولة وهي موضوع اجتماعي لا يمكن تجنّبه، وموضع إشكالٍ بلا حدود في نفس الآن. وتعريفه غير مستقرّ في نظرية غرامشي وعرضة لانزلاقات صعبة في استخدامه. ولكن يبقى للدولة معنيان يمكن التوقف عندهما. 1) الدولة جهاز متماسك بشكل صارم في المجتمع السياسي، وهذا يعني أنه مجرد جهاز للإدارة والقمع. 2) الدولة هي الوحدة العينية للمجتمع السياسي (السيطرة) والمجتمع المدني (الرضا، الهيمنة)، ما يعني «الدولة المتكاملة» أو «تمامية» الدولة.
وبهذا المعنى يعتبر غرامشي الدولة بوصفها مجمل الأنشطة السياسية والنظرية التي بفضلها لا تنجح الطبقة السائدة بتبرير سيطرتها والمحافظة عليها فحسب، بل بالحصول أيضاً على رضا (موافقة) المحكومين الفعّال. إن مفهوم الدولة الغرامشي هذا يخدم في كشف وجود علاقات سياسية للسلطة داخل المجتمع المدني بالذات، كما أن هذا المفهوم للدولة يرفض على الفور الفرضية الليبرالية القائلة بالحياد السياسي للمجتمع المدني (رفض فرضية هذا الحياد). وهذا ما يعكس تأكيد غرامشي على الجوهر السياسي لكل الحياة الاجتماعية.
دور المثقف
باكتساب حكم سليم على القضايا وامتلاك مخزون معرفي يتيح إدراك الموقف الراهن وتبعيات المستقبل يجعل نسبة عالية من الأفراد مثقفين، ولكن يكمن فرق بين المثقف التقليدي، وهو يلعب دور خارجي مشاهد لا ينخرط على المستوى العملي تنظيمياً مع مثقفين آخرين لتأسيس وعي يعبر عن الطبقات التي تعرضت لعملية أدلجة واغتراب مثل المثقف العضوي. فالمثقف العضوي ضرورة تمثيلية لأنها تخاطب الجماعة بالكيفية التي يعمل فيها النظام القائم.