يتجه العالم اليوم نحو صناعة الجمال، والاهتمام بكلّ ما هو ظاهر، ما دفعنا لإهمال داخل الإنسان؛ كيانه البشريّ الحقيقيّ، والإصغاء إلى كلّ ما يشغل عن تلك الحقيقة، والبدء بتفعيل خطة التحول، ليصبح البشر، كلّ البشر، قال الجمال المتعارف عليه.
شغل الجمال العالم؛ والجمال الذي شغل العالم ليسّ فنا أصيلا، لا يبحث عن انعكاس الشمس الساطعة على ملامح الإنسان الوديعة، إنّما يقيّم شكل العينين، والأنف، ولون البشرة، ومنظومة أسنان مُتراصة، ونمش على خدٍّ وآخر.
مُنذ انطلق العالم بهذه الفكرة أصبح أسير شيء لا يملك منه أمرًا. والمُضحك أنّه الآسر والأسير. وكما يؤكد العالم أن المرء لا يخلق نفسه، ولا يملك أداة ليخلق غيره، وهنا تحديدًا تتجلّى حكمة عجز الخَلق عن الخلق. فكلّما ضاق الفكر واتسعت العشوائيات بالحكم على أمر ليس باستطاعة المرء؛ تمرّد.
فيُصبح الأمر نسبيًا كُل من يملك نسبة 3% من الجمال يقلل من شأن من يملك نسبة 2% مثلًا. لكن لحظة! من وضع هذه النسبة، وكيف تشكلّت، وما هي الأُسس المُتبعة على اعتبار الجمال هُنا جمالًا، بل وأفضلية على الآخر.
نعود إلى الوراء قليلًا؛ الحقيقة أنّ لكلٍّ امرئ منّا حبيب، يرى شظايا وندوب وجه المحبوب سحرًا وإبداعا، لذلك لم يكذب المثل حينما قال "القرد بعين أُمه غزال" ذلك على اعتبار أنّ الإنسان لا يُحبّ إنسانا أكثر من ولده ويرى عيوبه الخلقية هبة وميزة وكرامة.
من هُنا وُلدت فكرة الأفضلية بالأمور المُشتركة غالبًا، أقصد الوجه والجسم ولون البشرة. كُلٌّ يرى الملامح عن طريق المشاعر، كُلّما أحببتُك أكثر رأيتُكَ جذابًا ورأيتُ الأنفُ المعقوف ميراث نُبوة ولون البشرة هُيام تراب الأرض بهذا المحبوب، وكمّا يعرف الجميع لكلِّ حبيب مُحبوب ولكلِّ محبوب حبيبٌ آخر.
يقول المُخرج درايبر لا شيء في العالم يُمكن مُقارنته بالوجه البشري. هي أرض لا يمكن أن يتعب المرء من اكتشافها.
يُشكّل المرء في ذهنه وخياله ما تمّ تجميعه من عُصور عن وصف الأحبّة بعضهم، هذا يرى العيون الواسعة بحرا من الجمال وهذه ترى الأنف الصغير هبةٌ من الملائكة وهكذا دواليك. فتُصبح وسيلة الحكم على الآخر اللّقطة. فمثلًا تعبير وجه مرهف تحت تأثير القوى الغامضة حقيقة لأنّ ذوي الوجه الدائري مُلهمون. ومن هنا تبدأ العين تلتقط هذا المُجسم من الوجه والعقل يُحلل بناءً عليه، فيُصبح جُلّ الحكم على مُنحنيات بالخلق لا يملك أحد منهم منها شيء. وتبقى الدائرة تحوم حول الترقُّب والخوف من حكم الآخر فنتجه جميعًا إلى شكل القطيع الذي يُعبّر عنه الجمال، وقد يثبت أن يكون صديقنا الآخر يتمتع بالجمال كُلّه، لكن ليسّ جمال الأحبّة في الوصف بل جمال الروح، رغبات وآمال وكيان طموح وحقيقة أخرى، أغلى ثمنًا وأكثر ندرة.
وكما قال الفيلسوف والكاتب روجر سكروتون: قد يُحدث الجمال شعورا بالاطمئنان، أو الاضطراب، أو القداسة، أو الفرح، أو الرضا، أو الإلهام، أو القشعريرة.
فالجمال يمارس تأثيرًا علينا بطرق متعددة ومختلفة، ولكن أحكام الجمال تتعلق بأمور الذوق. الذي ربما ليس له أساس عقلاني، وعليه كيف لنا أن نفسر المكانة الرفيعة للجمال في حياتنا؟ ولماذا يجب علينا أن نندب حقيقة أن الجمال يختفي من عالمنا؟
الوجه هو محطة الذكريات وما بداخل القلب من مشاعر، كُلّ أسى الإنسان يظهر به من حُزن وغضب سعادة وتأمل حيرة وافتتان. الملامح تسرد قصائد لا تنطق، لكنها ليست وسيلة للحكم دون النظر إلى الداخل. الداخل الذي هو صُنع المرء كيف يقضي وقته وأُسس تعلُّمه، أثر التجارب عليه وحكم الزمن والعُمر.
الحكم الظاهريّ أخطر وأشد من الجهل، كُلّما انقضى عاماً لن تتذكر حيوات الذين مرّوا في حياتك إلّا من خلال الوجه وحكمك على شكله يكون من خلال مشاعرك فتجد الجمال هو الجمال المُنعكس منك عليهم، من حبّك لأيّ مجسم للوجه أمامك. لن نتذكّر بعد سنوات شيئًا؛ تختفي المواقف والأمكنة تتبدد الأزمنة يتوقف العُمر رُبما!
لن نتذكّر شيئًا باستثناء الوجه والمشاعر، والربط بينهما يتعلق بك لا بعوالم من نطقوا قبل عصور وهدموا الآخر.
الآخر هو أنت، هو أنا، هو كُلّ شخص يتم الحكم عليه بأحكام لا تستند للذاتِ الحقيقية، كُلّما رأى الإنسان ذاته بعين ذاته اتسع الفضاء والعالم كُلّما حكم المرء ذاته وأحبّها وعبّر عن جماله هو كما يراه جميلا، سيُصبح العالم بأسره جميًلا، لأننّا مُتشابهون، نحن لا يُفرقنا لون بشرة أو قالب عيون، كُلّ الجمال منك ويستمده العالم بوصلة نحو حقيقة الإنسان، لا حقيقة الآخر.