"كان ياما كان في قديم الزمان في فلسطين.. هكذا يستهل الكاتب روايته، تُشعرك عتبة النص فورًا أنها ليست رواية عادية، ليست نصًا يحاول كاتبه التفلسف فيه، أو إظهار مدى براعته اللغوية والفكرية في صياغة الأدب، عتبة تشي بألفة أنها حكاية مثل حكايات الجدات ما قبل النوم. ليست مجرد رواية، فهي في الأصل نابعة من حكاية جد الكاتب نفسه، تحكيها الأم، التي كانت تفتخر بتلك الحكاية كإرث شخصي.
يقول أمبرتو إيكو "على المؤلف ألا يكتب ما يعتقده القارئ، فالمشكلة ليس ما يحتاجه القارئ، بل ما يجب أن يتغير فيه"
ونحن نقرأ لكاتب "يكتب ضد القارئ" حسب وصفه، يفاجئنا في كل عمل، يؤمن بالتغيير، لا على صعيد الموضوع وزاوية التناول فحسب بل على صعيد القالب الروائي نفسه. كاتب لا يتوقف أبدًا عن الإدهاش، فهو يعتبر تقليد الكاتب لنفسه خطيرًا كتقليده للآخرين، ففي كل مرّة أعتادُ على أسلوبه يفاجئني! بتلك القدرة الهائلة على اكتشاف سردٍ جديد، مغاير، ينتقل عبر طبقات اللغة بشكل مرن. كاتب يرى أن لكل موضوع قالب يناسبه، وأن الوعي بالشكل وعي بالمضمون، وأن المضمون يجب أن يختار الشكل الملائم له بحرية، وإلا فسيُخنق المضمون في قالب لا يناسبه، وبالتالي ترتبك الكلمات، ويتبعثر المضمون ويضيع صوت النص.
تأتي رواية "شمس اليوم الثامن"، بعنوان سريالي، وبغلاف حالم، كتب عليه: رواية يسمح للكبار بقراءتها! كتنازل أو استثناء للكبار بقراءة رواية وجهت في الأصل لليافعين، هكذا رأيت. تلك الرواية أعتبرها ذروة التغيير في أدب إبراهيم نصر الله، يصل بها إلى منطقة جديدة تمامًا عليه، يغازلها كثيرًا في رواياته، ولكن أحسست أن تلك الرواية هي موطئ القدم الأول في منطقة أدب اليافعين.
حتى أنني تساءلت جدلا: هل يُغيّر إبراهيم نصر الله قرّاءه عبر تلك الرواية؟
نص الخيال فيه نقيّ وواضح، كشجرة حكيمة، تمتد جذورها عميقًا، تتفرّع أغصانها، تتشابك أوراقها بسلاسة تشير لثمرتها وتحتضنها. افترضت أن النص موجه في الأصل دون إعلان واضح إلى اليافعين، لأن جرعة الخيال خصبة، قوية، تحتاج لهؤلاء المقبلين على الخيال بذهن أكثر تقبلًا له. ولهذا يعتبر فن أدب اليافعين أصعب، لأنه يخاطب أذهانًا أكثر صفاءً، وتوقًا لحكاية مفعمة بالخيال.
عبر سرد يمكن تسميته بالسرد التفسيري؛ يلتقط الكاتب كل حدثٍ، كل حركة أو ظنّ، ويفسرها باستفاضة، باستخدام علامات ترقيم شديدة الدقة، تجعل السرد كمعزوفة فريدة؛ مكثف للغاية، يصل لمبتغاه بإيجاز ودقة في آنٍ واحد، معزوفة تلائم كل الطبقات العمرية بشكل فريد ومميز، سرد كهذا يحقق فيه إبراهيم نصرالله أمنيته في أن يكون مايسترو!
الرواية تحكي عن فتى مزارع، يملك جملا لا يشبه أي جمل، وذات يوم تسقط نواة بلحة في خُرج ذلك الجمل، هذه النواة تصبح فسيلة، تنمو لتصبح نخلة كاملة في خرج ذلك الجمل، تسير معه عالية، وذات يوم رمى طفل على النخلة كتلة تراب، علقت كتلة التراب تلك في أعلى النخلة، وأخذت تكبر حتى صارت أرضًا كاملة، خصبة، تصلح لزراعات كثيرة. ثم يبدأ هذا الفتى رحلته للبحث عن أمٍ وأب مناسبين حتى يولد! يبحث عنهما في كل أرجاء فلسطين، يسير في رحلته، يركب جمل، في خرجه نخلة، فوقها أرض عالية ويعبر بهم المدن والقرى الفلسطينية، رواية عن حياةٍ قبل الحياة، وأرض فوق الأرض.
عبر تلك الرحلة، يمزج إبراهيم نصر الله الموروث الشعبي في حكايته، تأكيدًا على مبدأ الحكاية، كأن إبراهيم نصر الله أراد أن يجعل من حكاية جده، تلك الحكاية التي يقول إنه لم يقرأ مثلها في أي من الكتب التي تضم الحكايات الشعبية، ولم يسمع مثلها من أحد، أراد إضافتها للحكايات الموروثة شعبيًا، عبر سرد مرن يصلح لأن يكون لغة لحكاية ستُحكى للصغار قبل الكبار، هؤلاء الذين سينقلون تلك الحكاية لصغارهم.
كأن إبراهيم نصر الله، ينقل مشروع الملهاة الفلسطينية لأرض جديدة، أرض الحكايات الشعبية الواسعة، تلك الحكايات الخيالية، البسيطة، مرهفة الخيال، القادرة على الانسياب داخل العقل والبقاء فيه طويلا.
الروائيون آخر جدّات العالم، حسب وصف إبراهيم نصر الله، و "شمس اليوم الثامن" محاولة لوقف تسرب الطفولة من بين أيدينا كما يقول أيضًا إبراهيم نصر الله، كأنه بهذه الرواية يصنع حكايات، لهؤلاء الذين نشأوا في عالم المشاهدة عبر شاشات باردة، نشأوا في عالم ضد اللمس، ضد العيش بكامل الحواس! يوسع مشروعه الروائي، ليصل لجمهور جديد، عبر رواية يستنطق فيها كل الكائنات الحية. السرد هنا يتسع للجميع؛ للأشجار والنخل والحمام والحيوانات والبشر وحتى للأرض وطينها الغالي. يصرح الكاتب في هامش أول صفحة من الرواية "تم التعامل مع كائنات هذه الرواية، لغويًا، معاملة العاقل" وهنا كانت الإشارة واضحة: فالعمل الأدبي هذا تتشارك فيه كل الكائنات على حدٍ سواء، لصناعة حياة خيالية تشتبك مع الوجدان، تحاوره، توسّع الأفق، وتؤسس لذاكرة حكائية للأرض، لا يمكن نكرانها!
" أنا أحارب تضخم الكلمات، أحاول قول الأكثر بالأقل، لأن الأقل هو الأكثر" هكذا يصرح الكاتب والروائي إدوارد غاليانو.
هذا ما يفعله إبراهيم نصر الله في رواية "شمس اليوم الثامن"، قول قليل، بسيط، يقول الكثير، يغذي خيال القارئ، يخلف ظنه، ويراوغ رأسه عبر تلك الصدمة التي تفعلها رواية مغايرة للمألوف والمنتظر والمتوقع.
أحببت التجربة، أحببت الوصف الرقيق، والخيال المرهف، نص لا يسعك إلا أن تحبه حتى ولو تعجبت منه "كنت أغني كلما غادرنا قرية، لأنني كنت على يقين من أنّ جملا ونخلة وأرضًا كل ما فيهم فريد، كانوا يحبّون الغناء مثل كل أولئك الذين يخرجون في رحلات طويلة"
هذا نص يخاطب الوجدان، يراوغ العقل، يشقلب الخطوط الزمنية، وببساطة الوصف، ورقة السرد ودقته، يتعرض إبراهيم نصر الله لمفاهيم كثيرة في الحياة، تبدو في النص كسؤال لطيف يسأله صبي مراوغ "لماذا يخجل الناس من دموعهم، ولا يخجلون من ابتساماتهم؟"
يقول كونديرا " الأسئلة الهامة حقًا هي تلك التي يصوغها طفل. تلك الأسئلة التي تبقى دون جواب هي التي تشير إلى حدود الإمكانات الإنسانية، وهي التي ترسم حدود وجودنا"
ولهذا أضيف، هذه الرواية يجب على الكبار قراءتها، توسيعًا للخيال، وإزاحة لطبقات الصدأ الذي يتراكم عبر السنين، لنتعلم من الفتيان حب الحياة، والإقبال عليها، بخيال واسع، وقدرة أكبر على التقبل. هذه المرونة تساعدنا على تحسين علاقتنا مع حياتنا وأوقاتنا، تجعل للقضايا الإنسانية وجودا قويا، يلتصق بمشاعرنا، يمتزج في وجداننا ولا يتركنا بسهولة.. لا يتركنا أبدًا، عبر الحكاية.. الرواية".