ها هي الاقتصاديات تهوي بعد إصابتها بالعقم الفكري الذي عجز عن إيجاد حلول للمشكلات الاقتصادية التي تعاني منها المجتمعات والإخفاق تلو الإخفاق وتثبت فشلها عبر الزمن، فما الاقتصاد الرأسمالي أو الاشتراكي إلا أنظمة من نتاج فكر البشر - القاصر والمحدود - وضعت لتنظيم المعاملات المالية، بينما الاقتصاد الاسلامي اقتصاد يستمد قواعده وأصوله من مصادر التشريع الإسلامية المعروفة وهي القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة والاجتهاد؛ لتنظيم كافة شؤون الناس خاصة الجانب الاقتصادي كونه عصب الحياة، مع قدرة هذا النظام على إيجاد أحكام قابلة للتغير بتغير الأحوال تبعًا لمقتضيات المصلحة حسب كل زمان ومكان؛ مما يدل على مرونة هذا التشريع العظيم مع مراعاته عدم المساس بالثوابت.
إن المدقق في النظام الرأسمالي لا يجده إلا تكريس لشريعة الغاب (القوة تصنع الحق) فما هو الا تعزيز لأنانية وطمع الفرد وانحياز للملكية الفردية، فلم يأتي للبشرية إلا بمزيد من الأزمات، أما الاشتراكية فهي النقيض فتنحاز للملكية الجماعية وتهمل الفرد. فيأتي النظام الاقتصادي الإسلامي بوسطية مذهلة تُرضي الطرفين وتنأى عن التطرف وتُراعي العنصر الأخلاقي والقيمي في كافة أحكامها؛ مخالفة بذلك تلك الأنظمة التي أسقطت هذا العنصر ضمن نظرياتها ودراساتها. إذ أن الوسطية التي ينعم بها الاقتصاد الإسلامي تختلف عن التطرف في كلا النظامين؛ فجواز تكديس المال والثروة بأيدي فئة محدودة من الأفراد يؤدي إلى حرمان البقية من حقوق أساسية، أما توزيع الدخل والثروة على كافة أفراد المجتمع فيؤدي بدوره إلى إلغاء الاختلاف بين الأفراد، وفي كلتا الحالتين ما هو إلا ظلم صارخ.
إن انعدام الحافز وتدني الإنتاج في الفكر الاشتراكي من أهم المآخذ على النظام الاشتراكي مما أدى إلى سقوطه في أغلب دول العالم التي انتهجت هذا الفكر؛ كما أن تفشي البطالة والتفاوت الكبير في الدخول والثروات وظهور الاحتكارات من أهم المآخذ على النظام الرأسمالي مما أدى إلى غرق الدول التي انتهجت هذا الفكر في بحرٍ يعج بالمشاكل الاقتصادية؛ فالحرية الاقتصادية التي ترفع شعارها الدول الرأسمالية لهي سلاح ذو حدين؛ فها نحن نرى ازدياد الأغنياء ثراءً فاحشًا وازدياد الفقراء فقرًا مدقعًا مما أجبر تلك الدول على مكافحة الفقر من خلال تأسيس المؤسسات والمنظمات المحلية والدولية للتخفيف منه. إن تخبط تلك الدول من خلال السياسات الاقتصادية المتغيرة جعلها اقتصاديات مُدمجة فأصبحت اقتصاد بلا هوية محددة أو ما يسمى حاليًا بالاقتصاد المُختلط.
لقد حقق الاقتصاد الاسلامي التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة، فالنظام الرأسمالي ينظر للفرد على أنه محور الوجود والغاية منه، ومن ثم فهو يهتم بمصلحته ويقدمها على مصلحة الجماعة كلها، وهذا سر منحه الحق الكامل والمطلق في الملكية والحرية الاقتصادية؛ ويعلل النظام الرأسمالي موقفه هذا من الفرد بأنه لا يوجد ثمة تعارض بين مصلحة الفرد والجماعة وأن الأفراد حين يعملون على تحقيق مصالحهم الخاصة فإنهم في الوقت نفسه يحققون مصلحة الجماعة تلقائيًا. وهذا تبرير سطحي أثبت التطبيق الفعلي عدم دقته. كما أن الركيزة الأساسية التي يعتمد عليها الفكر الاقتصادي الاسلامي هي الرقابة الذاتية في نفس الفرد والتي تحكمه في تصرفاته وكافة معاملاته المالية من إنفاق واستهلاك واستثمار والتي هي أقوى من الرقابة الخارجية.
إن واقعية الاقتصاد الإسلامي تستمد خطوطها من متطلبات الواقع؛ فهو لا يلتفت إلى فرضيات خيالية لا يمكن تحقيقها تُبنى عليها نظريات تُدرس في الجامعات، ولا ينظر إلى غايات تخرج عن مبدأ الفطرة التي فطر الله الناس عليها. كما أن الحياة الاجتماعية لكل أمة لا تتحقق فيها المساواة من حيث الدخل والعمل أو المكانة فلكل فرد من أفراد المجتمع محله الذي لا يسده غيره؛ لكنه يحث الأفراد على فكرة تحقيق التكافل الاجتماعي فهم في تكاملهم كالبنيان المرصوص يشد بعضهم بعضًا. والفكر الاقتصادي الإسلامي ينظر إلى الإنسان نظرة مستمدة من إمكانياته وظروفه وبيئته ولا يحمله من التكاليف إلا ما يطيق ولا يفرض عليه إلا ما يستطيع. كما أن حرية تصرف الفرد في ملكه حرية غير مطلقة، بل مقيدة بضوابط وبتعاليم.
فالحرية المطلقة دون قيود فساد مطلق، وخاصة عندما لا توجد شريعة تحرم أكل المال بالباطل فلا تعاقب الاحتكار والربا؛ والتي هي تصرفات إنسانية منبوذة فيصبح صوت المال وحده الذي يسمع؛ وحينما تنتزع الرحمة ويُنسى الفقير؛ فالقوة هي التي تحكم والضعيف حقه مهدور؛ وهنا لا يكون للحرية والعدالة معنى في هذه المجتمعات فلا تبقى إلا حرية الغني في استغلال الفقير وتحكم القوي في مقدرات الضعيف.
ومن الملفت للإنتباه ما يتداول في الوقت الراهن في الاجتماعات والمؤتمرات عن مفهوم التنمية المستدامة وكيفية وضع الخطط والسياسات والرؤى المختلفة بهدف الوصول إليها؛ فكيف تجدها في فكر مادي محض؟ لا يركز إلا على تراكم رؤوس الأموال أو زيادة الدخل القومي بأية طريقة، وفي المقابل يتجلى هذا المفهوم بوضوح في الفكر الاسلامي؛ الذي يحث على التنمية والإعمار والعمل والعدالة في توزيع الدخل والثروة والترغيب بالإنفاق والتركيز على الأولويات فالضروريات فالكماليات؛ مما يؤدي فعلا إلى استئصال الفقر وحل مشكلات التخلف الاقتصادي وتوفير دخل مناسب لجميع طبقات المجتمع. ويكفي الاستشهاد بقول الرسول الكريم لنعي مفهوم الاستدامة الحقيقي " إن قامت على أحدكم القيامة وفي يده فسيلة فليغرسها".
إن التجارب الماثلة أمامنا لبعض الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا وفرنسا لهي خير مثال على فشل تلك الأنظمة، فانتشار الفقر الزائد بسبب ابتزاز أصحاب رؤوس الأموال للأيدي العاملة مما ولد عداوات وبغضاء بين افراد المجتمع الواحد الأمر الذي يؤثر أيضًا على الأمن الاجتماعي والسياسي لتلك الدول. أما الدول الاشتراكية التي ما زالت تكابر في الدفاع عن هذه الأنظمة كالصين والهند فحالها ليس بالأفضل! إن الأزمات الاقتصادية التي عانى منها العالم الرأسمالي والتي كانت آخرها سنة 2008، وعدم الاستدامة في الاشتراكية العربية وتفككها في سبعينيات القرن العشرين لأكبر دليلان على فشل هذه الأنظمة في قيادة وتسيير عجلة الاقتصاد، بل كان ينتقل من معضلة اقتصادية إلى معضلة أكبر، ومؤشر على أنها تسير في طريق الزوال.
ختامًا، فإن الفكر الذي يوقظ الرقابة الداخلية والوازع الأخلاقي للإنسان ويُنمي المسؤولية الاجتماعية لديه لهو الفكر والنهج السليم والأحرى بالاتباع والذي سيقود البشرية لحياة أفضل ونزاعات أقل!