سؤال أحاول أن أجيب عليه منذ كنت طفلا، وأنا أنظر لأبي كيف يتصرف وكيف يعمل ويتعب، ويحاول، بشتى الوسائلـ لا ليوفر لنا الطعام، فقط، بل ليكون أبا كما يليق به أن يكون، لكي يكون أفضل صورة للأب في ذهنه، بعيدا عن تجربته كطفل أمام أبيه
سؤال باعتقادي سيظل دائما مفتوحا، ففي كل يوم تجد له اجابة جديدة، او معنى أوسع، او شكلا آخر، أو مهمة اضافية، سؤال لا يمكن أن يختصر باجابة واحدة، فالأبوة ليست وظيفة، ولا حرفة، وليست محددة بوقت معين، او ساعات محدودة، بل هي عمر كامل، تقضيه أبا، لا ينتهي حتى بوفاتك، فأبوتك تبقى من بعدك، كما يظل أبناؤك متعلقون باسمك وذكرك، سواء أرادوا ذلك أو تمنعوا!
باعتقادي الأبوة ليست ممكنة التعريف، وكل تعريف لها ناقص، لأنها واسعة، مثل الأمومة تماما، كما لا يمكن تبسيطها الى قواعد سلوكية معينة، أو اجراءات تأخذها، أو سلطة تتمتع بها، وتفرضها، على صغارك، الأبوة أكبر من ذلك. كل الأساطير التي عرفها السابقون عن الأبوة، تسقط عند أول لمسة حانية من الأب، كل التصورات عن الشقاء الذي يصحبها تنهار أمام أول ضحكات الطفل لك.
الاهتمام الذي توليه لطفلك يوميا وعلى مدار الساعة، يوليه الطفل لك في المقابل، فورا، لا كما يعتقد البعض أنه لا يرد الا بعد سنوات، فليس من شرط يفرض أن يكون الاهتمام الذي تأخذه صورة عما تعطيه، ولا بذات الحجم، ولا الجهد. كل ما تقدمه من اهتمام يمكن للطفل أن يرده باحتضانك، قبل حتى أن تكسب يديه الطول الكافي ليشبكهما ببعضهما حول عنقك.
الحب لغات كما يقول غاري تشابمان، وأنا أظن الحب أكبر حتى من ذلك، الحب متنوع بتنوع الأصوات، فاللغات مهما كثرت محدودة، أما الأصوات فأكثر عددا، مثلها مثل التجارب في الحب. وليس الحب مقصورا على البالغين، فحب الأبناء مختلف تماما، وهو أكثر لذة أحيانا.
الحب ضعف، فما بالك بحب الضعيف، حبك له وحبه لك؟ هذا الكائن العاجز حتى عن تنظيف نفسه، إلا بيدك، وعن أكل طعامه الا بعونك؟ هذا الكائن الصغير الذي يعتمد عليك تماما لا لينهكك ويتكل عليك، بل ليزيد بذلك ارتباطه بك، ارتباط فرضه الكون عليكما، فلا يحيا الطفل الا بك، ولا تحيا أبا الا به.
الأبوة ليست كذلك صفة، تكتسبها بمجرد الانجاب، ولا كنية تحملها ويناديك الناس بها، فليس كل من نودي أبا لفلان، كان أبا فعلًا، الأبوة رابطة أقوى من كل روابط الدنيا، ان أنت أحسنت الحبك، ونسجت وشائجها كما يجب، واعتنيت بتفاصيلها، حبلا حبلا، فحبال الود ناعمة رقيقة، تحتاج منها كثير لتصنع بها وشيجة، ولتظل ببعضها متصلة.
الأبوة راحة في تعب، وتعب في راحة، وجنة في نار، ونار في جنة.