يشهد العالم ثورة تكنولوجية هائلة فى شتى المجالات، أصبح العالم من خلالها بمثابة قرية كونية افتراضية صغيرة، وكان من نتاج هذه الثورة ميسورية الوصول التكنولوجى لجميع فئات المجتمع العمرية، وقد ترتب على التقدم التكنولوجى الهائل الذى نشهده رواج كبير لمواقع التواصل الاجتماعى، ومع ما تملكه هذه المواقع من وسائل جذب وإثارة للمستخدم فقد تزايد الإقبال عليها، والانخراط فيها.
كان من نتاج هذه المواقع التواصلية ظهور ما يسمى بالمجتمعات الافتراضية القائمة على هذا الاستخدام التكنولوجى من خلال وسائله، وانبثق من مفهوم المجتمع الافتراضي مفاهيم أخرى مثل: المواطنة الرقمية، الهوية الرقمية الافتراضية.
ومن ثم لم تعد هويتنا الثقافية تتأطر فى بوتقة العالم الواقعي فحسب بل انعكس عليها الواقع التكنولوجى الحديث الذى كان من أهم نواتجه إخراج الهوية الثقافية من مفهومها الواقعى إلى المفهوم الافتراضي، فأصبح المجتمع العربي بين هويتين متداخلتين؛ الهوية الواقعية الأصلية الملموسة فى الوطن واللغة والدين والإرث الثقافي والحضاري، والهوية الافتراضية التى تتشكل عبر الفضاء الالكتروني بوسائطه المتعددة.
والهوية الافتراضية هى تلك الهوية المرتبطة بنشاط الفرد وتفاعلاته عبر الشبكة العنكبوتية متجاوزا حدود المكان والزمان واللغة والدين والتاريخ، فى إطار فضاء افتراضي وعناصر افتراضية للتبادل الثقافى. وهي التى نتحدث عنها فى إطار نشاط الفرد وتفاعلاته على الانترنت مع الآخرين من ذوي الهويات الافتراضية أيضا، حيث يتخطى الفرد نطاق الهوية الوطنية والثقافة المحلية، واللغة، والدين، والتاريخ، وغير ذلك من محددات هويته الأصلية ليصبح فى إطار هوية افتراضية Virtual Identity تتشكل أبعادها فى ضوء العالم الافتراضي الذى صنعه الفرد لنفسه أو صُنع له.
والهوية الافتراضية تتعقد ضمن ثلاثة مستويات:
1- الهوية المعلنة؛ وهي المعلومات التي يقدمها المستخدم قد تكون حقيقية أو مزيفة.
2- الهوية النشطة وهي النشاط الذي يقوم به المستخدم في العالم الافتراضي.
3- الهوية المحوسبة وهي حالة المستخدم في أثناء اتصاله بالإنترنت (أونلاين) أو (أوفلاين).
فى إطار التفاعل بين الواقعي والافتراضي تتولد جملة من المخاطر التى تحيط بهويتنا الثقافية، من أهمها:
1- استلاب الهوية ومسخها
يحدث عندما تتعرض الهوية إلى تأثير نظام من العمليات الخارجية التي تعمل على إحداث تغيرات عميقة في جوهرها، ويترتب على هذا شعور الفرد بالتغيرات الحاصلة، وإحساسه بوضعية استلابه سواء على مستوى الفرد والجماعة والثقافة.
مع التقدم التكنولوجى وظهور المجتمعات الافتراضية، يمكننا القول إن نظم المؤثرات الخارجية تغيرت وسائلها وأشكالها، فتحول المؤثر من الشكل التقليدى المعروف واقعيا بالاحتلال العسكري وفرض مناهج وثقافات المستعمر إلى الشكل الافتراضي المتمثل بمواقع التواصل التى تتحكم بصياغتها وبنود استخدامها نظم أخرى لها أهدافها وغاياتها غير المعلنة.
يأتي الاستلاب على أنواع، منها الثقافي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، وربما يكون الاستلاب الفكري هو القناة التي تمر من خلالها كل نوعيات الاستلاب الأخرى، وثمة (الاستلاب العقلي، الذي يقود بالضرورة إلى الاستلاب الفكري والثقافي، وبالتالي يفرض نهجه على تلك السلوكيات، والطبائع المرتبطة بتلك الذات المستلبة على كل المستويات، الاجتماعية، النفسية، الفكرية، الثقافية، والحياتية اليومية!)، وبهذا يصبح الإنسان مفرَّغا من فكره ذي الخاصية الذاتية، أو ما يُطلق عليه بعض المختصين بالهوية الفكرية.
يشكل الاستلاب الثقافى أخطر صور الاستلاب، ففى ضوئه سوف تتبلور صور الاستلاب الأخرى، فالفرد الذى ضاعت هويته الثقافية قادر بعدها على تقبل أى شكل من أشكال الهيمنة الاقتصادية والاجتماعية، ذلك أن معركة الوعي الفكري حسمت لصالح المصدر المرسل لا لصالح الافتراضى المُستقبِل الذى تماهى فى ثقافة غيره فتقبلها بشكلها الافتراضي ليتحول بعدها إلى تجسيدها عناصر حية وثقافة بديلة عن ثقافته الأصلية فى مجتمعه الواقعي.
في معركة الغزو الثقافى تبدأ مواقع التواصل الاجتماعى فى إرساء دعائم الإكراه السيكولوجى المنظم، وهو إكراه لا شعورى يعيشه الفرد فى شبكات التواصل الاجتماعى إلى أن يتحول إلى أرض خصبة لتعظيم النموذج القيمي الخارجي الذى يظنه مثاليا كما قُدِّم له، ومن ثم تحقير نموذجه القيمى الذاتى الأصلى الذى اكتسبه فى مجتمعه الواقعي.
2- التواصل اللغوي
رغم أن مواقع التواصل تطرح باللغة العربية إلى جانب لغات أخرى، إلا أنها شكلت أثرا بالغا على اللغة العربية، فرغم الثراء اللغوي الذى قد يبدو ظاهرة صحية تمكن أفراد المحتمع من الثراء اللغوي واللغة الإنجليزية بخاصة إلا أن مكمن الخطر يبدو على مستوى التواصل اللغوي العربي.
أوجد التواصل من خلال مواقع التواصل الاجتماعي رموزا تواصلية أو لغة جديدة تسمي "العربيزي" أو "الفرانكو آراب" وهي كلمات ذات معنى عربي تكتب بحروف إنجليزية أضيف إليها بعض الرموز بحيث تقابل بعض الحرف العربية غير الموجودة في الإنجليزية، ما يترتب عليه ظهور وسيلة تواصلية هجينة جديدة لا يمكن وصفها بأنه لغة منتظمة لها رموزها الثابتة ودلالتها اللغوية المعروفة فى سياقها، إنما هى رموز تعبر عن ثقافة مستلهمة من النموذج الغربي، ومن ثم سيطرة الهيمنة اللغوية من جانب، وضياع اللغة الأم من جانب آخر.
هذا الخطر لا يتوقف عند حدود المجتمع الافتراضي، إنما يتخطاه إلى الواقع المعيش، فما نلحظه اليوم من ظهور مصطلحات تواصلية بين الشباب وعدم قدرتهم على التحدث باللغة العربية أو فهم ألفاظها، ما هو إلا صدى لهذا الاغتراب اللغوى الذى يعيشه شبابنا فى الوقت الحاضر.
تجريد الهوية من طابعها اللغوى وقلة المحتوى العربي فى البيئة الافتراضية يمثل شكلا من أشكال الهيمنة الثقافية التى فرضها منتجو وسائل التواصل الاجتماعى لنقل تبعية الشعوب إليها والتحكم فى مصائرها، ومن ثم سجنهم فى هذه التبعية التى تتطور لتصبح مظهرا لا شعوريا من مظاهر الانتماء الثقافى لهذه الوسائل والقائمين عليها.
3- الإرهاب الفكري
انتشار مواقع التواصل وإقبال الكثير من شرائح المجتمع العمرية، لاسيما المراهقين جعل منها أرضا خصبة لنشر الافكار الهدامة والسموم الفكرية المتطرفة في عقول أفراد المجتمع، لتقف الأمة أمام تحدٍ من نوع جديد وهو خطر انتشار ظاهرة الانحراف الفكري الذي يمثل ركيزة أساسية تنطلق منها جوانب أخرى للانحراف في شتى مظاهر لحياة، حيث تتداعى على كل العناصر الثقافية باذلة جهدها لهدم ثوابت المجتمع وقيمه وآدابه، وصولا إلى هدم الشخصية ذاتها، وإحلال شخصية مبرمجة ومنساقة لتوجهات المستعمر التكنولوجي الجديد الذي تحول إلى نوع جديد من الحروب هو الحرب المعلوماتية.
وتعد الحرب الدعائية أو نشر الأخبار الكاذبة من أبرز تكتيكات الحرب المعلوماتية، وتتضمن نشر الاخبار والمعلومات والشائعات بطريقة متداخلة تعمل على التأثير في وعي وإدراك المجتمع وضعف القيادة و محاولة السيطرة على مؤسسات الدولة.
من هنا يجد المجتمع نفسه أمام تهديد خطير وحرب جديدة لا تعتمد على السلاح المادي، بل تتخذ من وسائل التواصل وسيلة فعالة ومؤثرة وغير مكلفة لتنشر السم في العسل، فتخلق في المجتمع فردا متمردا ثائرا على ثوابته ومعاديا لمجتمعه، بعد أن ترعرع في هذه الأرض الملوثة واستقى من مائها الآسن.
4- تنامى الإحساس بالاغتراب
انخراط الفرد فى وسائل التواصل بشكل كبير ربما يقوده، غالبا، إلى إدمان استخدامها، ما يدعوه إلى التعايش فى بيئة افتراضية يمكن له من خلالها أن يخفى الكثير عن حياته الخاصة وسماته الشخصية، ومع مرور الوقت يجد فى هذه البيئات الافتراضية بديلا عن بيئته الواقعية.
مع تنامى الشعور بأنه فرد مهم من أفراد هذه البيئة الافتراضية فإنه يبدأ فى الانعزال عن مجتمعه الواقعى، مبتعدا عن أفراده وقضاياه ومشاكله الواقعية، فيتولد لديه نوع من الاغتراب النفسي والفكري والاجتماعي، ليعيش صراعا حادا بين ما هو واقعى وبين ما هو افتراضي، يقوده بعدها إلى الانسحاب من واقعيته التى قد يتصادم معها إلى افتراض هش وعلاقات ظاهرية فى مجتمع افتراضي يظنه الأمثل من وجهة نظره، تاركا دوره المجتمعى كفرد فاعل قادر على تحقيق طموحاته وطموحات المجتمع وآماله التى أملها فيه، فيصبح بعدها كل شئ مزيف، من وجهة نظره، حتى تعبيراته الانفعالية والاجتماعية يختزلها فى رموز مجردة لا تعبر عن طواياه وخلجات نفسه.
أشارت نتائج الدراسات الحديثة إلى أن استخدام وسائل التواصل له تأثير سلبي على التوافق النفسي تنبع من الحجة الرئيسية التي تقول إن مستخدمي وسائل التواصل تنخفض لديهم القدرة على إقامة العلاقات الاجتماعية الحقيقية، مما يؤدي في النهاية إلى العزلة وفقدان القدرة على المشاركة في الحياه الاجتماعية، وزيادة الشعور بالوحدة والاكتئاب والقلق النفسي.
5- ثنائية الهوية
تتيح وسائل التواصل للفرد فرصة للتعرف إلى ثقافات متغايرة ومتباينة والتى قد تكون متعارضة مع ثقافته الأصلية، ولا تكمن الخطورة هنا، فهذا أمر صحى، لكن مكمن الخطر الحقيقى هو تشبع الفرد بهذه العناصر الثقافية الوافدة افتراضيا وتحويلها إلى سلوك حى فى مجتمعه الواقعى، الأمر الذى يوجد نوعا من الهوية الثقافية الثنائية أو الهويات الثقافية المتعددة،
فما نلحظه اليوم من صور المزج بين اللغتين العربية والإنجليزية، وتغيير مسميات الأشياء التى نتعامل عليها من ملابس ومأكولات ومشروبات وقيم ثقافية ما هو إلا دليل قوى على هذه الثنائية التى اكتسبها شبابنا من حيث لا يدرون، فأصبحنا أمام جيل ثنائي الهوية يتمثل ثقافات الآخرين فى شتى مظاهر الحياة دون أن يعرضها على ميزان القيم المجتمعية والثقافة الدينية أو المعايير الأخلاقية لمجتمعه الواقعى.