حين تزلّ اللغة قبل أن تكتمل
ماذا لو لم تكن اللغة سلطة مطلقة علينا، بل نحن من نرتجف فوق عتباتها؟ ماذا لو أن الكلمات لا تنقاد كما نظن، إنّما تتلعثم في أفواهنا، ترتبك، تتراجع، ثم تجرؤ؟
لماذا أكتب إذًا؟ هل لأنني أمتلك زمام المعنى، أم لأن اللغة تزلّ تحت قدمي كلما حاولتُ أن أقيم عليها بيتًا؟
كل جملة أكتبها، تسبقني ثم تلتفت إليّ مذعورة، كأنها تسألني همسًا:
هل كنتَ تقصدني حقًا؟
ولا أجد جوابًا يُرضيها أو يُرضيني.
هكذا عرفت أنني أسكن تلك المسافة المرتبكة، حيث لا يكفي أن تعرف ما تريد قوله، ولا يكفي أن تجد الكلمات له. حيث التلعثم ليس عطبًا في النطق، بل بلاغة أخرى: بلاغة اليد المرتجفة وهي تطرق بابًا تخشى أن يُفتح عليها فجأة.
التلعثم
صوت اللغة وهي تبحث عن نفسها
ليس كل صمت عجزًا، وليس كل تردد علامة على خواء داخلي. بعض الصمت، بعض الارتباك، هو الطريقة الوحيدة التي تعرفها اللغة حين تحاول أن تتخلق تحت وطأة الشعور الثقيل.
التلعثم ليس خطأ النطق، هو رعشة الولادة الأولى: حين تهتزّ الحروف لأن المعنى أكبر من مخارجها الضيقة، وحين ترتجف الجملة لأنها تحمل على ظهرها حمولة أكثر مما تحتمل الكلمات المصقولة.
التلعثم هو اللغة وهي تخاف أن تخوننا، أن تفرغ أحزاننا بحروف أبسط مما تستحق، أن تفسر الانكسار وكأنه مجرد اصطلاح أدبي لا أكثر.
في التلعثم، تسمع صدى اللغة العميقة:
اللغة التي لا تهدف إلى الإقناع أو الإبهار، بقدرِ ما تحاول أن تكون، أن تصمد، أن تجد شكلًا لما لا يُشكل. كما تتردد البذرة قبل أن تشقّ الأرض، وكما يهتز الضوء في حدقة العين قبل أن يصبح رؤية، تهتز الكلمة حين تكون صادقة أكثر من اللازم. ذلك الرجفان اللفظي، تلك الوقفات الطويلة وسط السطور، تلك الحروف التي تتساقط منا قبل أن تصلح للقول كلها شهادة على أن اللغة حين تكون أمينة لمشاعرنا، تحتاج إلى أن تتلعثم.. لا أن تتلوّن ببراعة الخطابة الجاهزة.
التلعثم هو أن تقول الحقيقة دون تنميق، أن تخرج الحرف من داخلك كما يخرج النفس من صدر مضغوط بالرغبة في البوح والخوف منه في آنٍ واحد.
كتّاب عبروا الحافة المرتجفة
ليس التلعثم حكرًا على من عجز عن امتلاك اللغة، بل أحيانًا يصيب أولئك الذين أحبوا الكلمات حبًّا مبالغًا، حتى خافوا أن يسيئوا استخدامها. يصيب الذين يعرفون أن كل جملة قد تكون خيانة خفية لما أرادوه أصلًا أن يُقال.
فرناندو بيسوا، ذلك الذي كتب وكأنّه يعتذر عن كل كلمة، عن كل حرف تجرأ ووصل إلى الورق. ربما أراد أن يقول ذات مرة:
"أشعر أنني أخطئ حتى وأنا أصيب؛" لأنَّ اللغة بالنسبة له كانت مرآة قابلة للانكسار عند أخف ارتجافة، وكانت يده تهتز فوق الورقة كما تهتز يد من يحاول أن يرسم البحر دون أن يسيء إليه.
وكافكا، سيد التلعثم الوجودي، لم يكن يكتب نصوصًا سهلة أو ملساء، بل كان ينحتها بأسنانه. يحفر في الصخر، يحاول أن يُقيم جسرًا هشًّا بين الداخل المظلم والخارج المجهول، بين ما لا يمكن قوله، وما يجب أن يُقال رغم ضيق الحروف. وكانت كتابته نفسها شكلاً من أشكال التلعثم: لغة ترتبك، تتردد، تتأرجح، لكنها لا تكذب.
حتى نزار قباني، رغم براعته في جعل الكلمات ترقص فوق أوزانها، كان يعترف أحيانًا أن الكلمات خانته عندما كان الألم أكبر من القافية، وأن أجمل القصائد — تلك التي اختنقت قبل أن تولد — هي التي ظلت تحترق في مكان ما داخل صدره.
هؤلاء الكتّاب، لم يكونوا أساتذة فصاحة فحسب، إنَّما مسافرين عبر حافة مرتجفة: يحملون اللغة فوق ظهورهم المرتعشة، ويعرفون، أكثر من غيرهم، أن الكلمة الصادقة غالبًا ما تولد متلعثمة، ناقصة، لكنها مبللة بالدم.
التلعثم هو أن تكتب بجسد يرتجف خوفًا من أن يخونك الحرف، ومع ذلك.. تواصل الكتابة كأنك تخيط جرحًا لا يُرى، جرحًا لا يُشفى إلا بأن يُسمع، ولو على هيئة ارتباك.
حين لا تتّسع اللغة للذات
بعض الأرواح تولد أوسع من القواميس، وأثقل من كل الكلمات التي وُضعت لشرح العالم. ثمة مشاعر لا تسعها جملة، وثمة حكايات لا تليق بها مفردة جاهزة.
ولهذا، حين نحاول أن نسمّي ما يعتمل في داخلنا، نتلعثم، لا لأننا نجهل اللغة، بل لأن اللغة نفسها تجهل اتساعنا. نتوقف في منتصف الجملة كمن يتوقف على حافة بئر لا يرى قاعه، نتأمل الفراغ الممدود بين الكلمة وما أردناه فعلاً أن نقوله، نختبر المسافة المؤلمة بين التجربة والمعجم. اللغة — مهما رقّقناها، مهما وسعنا معانيها، مهما نحتّناها كالنحات العتيق —
تظل قميصًا ضيقًا، نحاول أن نحشر فيه جسدًا ضخمًا من الخوف، والحنين، والانهيار، والرغبات التي لا اسم لها. لهذا، يتهشم اللفظ أحيانًا تحت وطأة ما يحمله،
وتتكسر الجملة كما تتكسر عربة صغيرة حين تُحمَّل بأكثر مما تحتمل. التلعثم إذًا، ليس نقصًا في القدرة،
بل إعلان صادق أن العالم الداخلي أكبر من أي حروف جاهزة، وأنّ الذات لا تُختصر في كلمة، ولا تُلخّص في نص، ولا تُسرَد في حكاية مكتملة.
ثمة أرواح لا تصلح لها اللغة إلا إذا تعثرت، إلا إذا كشفت ارتباكها الهش، كأنها تعتذر، لكنها لا تتوقف عن المحاولة.
ربما لا خيانة في التلعثم، بل وفاء خفي:
أن نعترف بأن الذات أكثر تعقيدًا من أن تُروى بلغة مستقيمة، وأن أجمل الكلمات ليست تلك التي تصل سريعًا، بل تلك التي تتعثر قليلًا، وتجلس إلى جوارنا، قبل أن تواصل الطريق.
بلاغة المرتبك
منذ الآن، لا أخجل من تلعثمي، ولا أعتذر إن تخطّفتني اللغة في منتصف العبارة. التلعثم هو لغة ثانية، لغة الذين يعرفون أن لا شيء يُقال كاملًا، وأن بعض الصدق لا يمرّ عبر الجمل المستقيمة، بل يتسلل عبر الاهتزاز، والسكوت، والحركة الغامضة للكلمات وهي تبحث عن أعشاشها. أنا لا أبحث عن البلاغة الملساء. أنا أبحث عن الجملة التي تهمس بدل أن تصرخ، التي تجرؤ أن تتلعثم، لأنها لا تريد أن تكذب.