أحسب أن للرسائل والمذكرات والقصاصات الورقية المتناثرة في كواليس الكاتب وعالمه المعاش؛ أهمية الشاهد على (الهو) ذاته، وليس (الهو) غيره: أي ما يختار كونه في الكتابة والتأليف. ورغم ما يتكشف من هويته وتجاربه في نتاجه الأدبي؛ إلا أنها لم تدفع عنه الدعوة إلى عزله وتغييبه في أثناء تلقي النص وقراءته. ففي ظل انشغالاته الذاتية الممارسة (المعلنة) بمجابهة الموت الكتابة سعياً إلى الخلود كانت سلوكاته الذاتية التلقائية (الخفية)؛ رسائل، مذكرات، خربشات... تشكل وثيقة إحياء المؤلف.
تأتي رسائل الروائية البريطانية ڤيرجينيا وولف بطابعٍ كاشف عن شخصيتها المزاجية الحادة، بإزاء ميلها الشديد إلى العزلة والزهد بالحياة ومتاعها، كما وصفتها ڤيتا: "العجيب الطريف هو أنك الشخص الوحيد الذي أعرفه جيداً، وأعرف أنه بمعزلٍ عن الملذات المبتذلة الساذجة في هذه الحياة"، والاكتفاء بالقراءة والكتابة، ما سمح لها وضعها الصحي المضطرب بذلك بعد تاريخ حافل بالإرث الإبداعي الخالد؛ رواية "السيدة دالوي"، "إلى المنارة"، و"الأمواج"... ولا تفوتني محاضراتها "غرفة تخص المرء وحده" على سبيل المثال، ونشاطها الثقافي وتأثيرها في الحركة الأدبية الحداثية والنقد النسوي، ودورها في تكوين مجموعة بلومزبيري الفنية والأدبية، لتصنف إحدى أكثر الأدباء تأثيراً في القرن العشرين، وتسهم في تدشين تيارٍ جديد في الأدب الإنجليزي والعالمي هو تيارُ تداعي الذاكرة سيل الوعي.
إلا أن قارئ وولف لم يستجب بحواسه العميقة لمؤلفاتها، إذ كانت تلك التفاصيل المبهمة حول سرد ڤيرجينيا، تبقى في نفسه شيئاً من الملل، وتعزوه إلى بحثٍ يجيب عن سؤال الظروف التي عاشتها، ومناخاتها المتقلبة؛ ليدخل حيز وولف عبر وسيطٍ يشرح غاياتها، ويلحظ تدفق أفكارها وذكرياتها وعواطفها وحالتها النفسية والعصبية. وبذا كان وقوفي عند الرسائل وتقديمي لجانب وولف في حديثي عن أهمية الرسائل بالنسبة لي أنها شرعت الستارة التي حجبت عني كنه ڤيرجينيا الإنسان، بعد أن كشفت رواياتها ومقالاتها الطرف الآخر المعلوم منها، أي: ڤيرجينيا الكاتبة الناشرة. وهو ما وجدت تمثلاته في رسالة إلى ڤيتا: "من العجيب أن مثل هذا المرض، وهذا الصداع يصدع الإنسان، فيجعله شخصين مختلفَين في آن واحد. هذا عقلي، لامع كاللؤلؤ، ولكنه نقاد متشدد، يستطيع أن يفهم، فإذا سألته أن يكتب كتاباً انقطع نفسه، ولم يحِر جواباً. كيف يكتب الإنسان كتاباً؟ لا أستطيع أن أؤلف كلمتين! فعقلي الآن خجل حيي مختبئ". كما مكنت من إحياء العلاقة مع الروائية الشاعرة ومصممة الحدائق ڤيتا ساكڤيل-ويست.
ڤيتا الأديبة صاحبة الروح الجريئة الحيوية، والأسفار المتعددة الباحثة عن المغامرة المفتونة بڤيرجينيا، بعد أول لقاء بينهما في حفل عشاء في لندن يوم 14 ديسمبر 1922، أرسلت إلى زوجها هارولد "إني مفتونة بڤيرجينيا وولف، وأنت لو رأيتها لفتنة بها أيضاً، وبُهِتّ بجمالها وشخصيتها. إن السيدة وولف قريبة المأخذ، لكن طلعتها تنبئ بشيء عظيم، وهي أبعد ما تكون عن التكلف؛ فليس ثمّة حلي وزينة ظاهرة، وتلبس ملابس بسيطة، تراها أول ما تراها فلا تحس بشيء، ولكن سرعان ما يهجم عليك جمال روحها، فتحس بذاك السحر حين تتأملها! لم أعجب من قبل بأحد إعجابي بها... لقد ذاب قلبي!" نالت بشخصيتها الواثقة المحبة المعطاءة، صداقة ڤيرجينيا ومودتها، بل تعدت إلى علاقة: عاطفية، فكرية، حياتية، أدبية ثرية. نقشت أثرها في مسيرتيهما، وفي الأدب الإنجليزي.
في التاسع من أكتوبر 1927، كتبت ڤيرجينيا إلى ڤيتا: "أورلاندو: سيرة ذاتية. قدِّري أن أورلاندو هي ڤيتا، وأن هذا الكتاب إنما هو عنك وعن شهوات جسدك وغواية نفسك"، وفي 20 مارس 1928، أرسلت لها: "انتهيت من أورلاندو! السؤال الآن هو هل تغيرت مشاعري تجاهك؟ لقد عشت فيك كل تلك الشهور، والآن قد خرجت، فكيف أنت على الحقيقية؟ هل أنت موجودة أصلاً؟ أم هل اخترعت اختراعاً؟". ليأتي جواب ڤيتا مراعياً لحساسية وولف الشديدة، كما هو حالها على امتداد صداقتهما؛ "لقد كدت أموت رعباً مما قلت: "هل أنت موجودة أصلاً؟ أم هل اخترعت اختراعاً؟". دائماً ما كنت أتوقع ذلك، منذ أن قتلت شخصية أورلاندو. حسناً، سأقول لك كلمةً واحدةً: إن كان إعجابك بي- لا، بل حبك لي- قد قلَّ مثقال ذرة أو خردلة بسبب موت أورلاندو، فلا تقع عينك عليَّ مجددا أبداً، إلا نظرةً عرضاً في حفلة من حفلات سيبيل. لن أكون شخصية خيالية! لن أحب حبّاً أثيريا خياليّاً، أو في عالم ڤيرجينيا. فاكتبي سريعاً إليَّ بأنني لم أزل حقيقية. أحس الآن بأنني حقيقية جداً، حية كالمحار والصدف البحري... أنا لك عاشقة ثابتة الود والحب".
هذه التفاصيل الصغيرة، ونوع المشاعر التي حملتها المراسلات، أظهرت ضعف ڤيرجينيا التواقة إلى الحنان والرعاية، ولم تتوانَ في طلبهما؛ "بالمناسبة، لماذا لا تنادينني في بداية رسائلك إلا بالضمير، ولا تزيدين أي شيء؟ حتى لا تقولي "عزيزتي ڤيرجينيا"، بينما أؤلف لك صفةً جديدة في كل مرة أناديك فيها؟". والجدير بالاهتمام أن هذه الملاحظة التي تلتفت لها وولف في بداية رسائلهما، هي ما يلتفت لها القارئ في نهايتها، إذ تأتي توقيعات ڤيتا كخاتمة لرسائلها، مليئة بالتوكيدات والوعود الصادقة بالإخلاص، كأنها وداع عاشت بقلق احتمالية تحققه مع ڤيرجينيا وصراعها المرضي، ونوبات من الانهيار العصبي قادتها إلى محاولات انتحار متكررة، نجحت في آخرها 28 مارس 1941، وتركت أورلاندو دون وداع أو رسالة وداع!
قبل النهاية، كيف تبدو ڤيرجينيا للقارئ بعد هذه الرسالة؟
إلى ڤيتا ساكڤيل-ويست، 52 ميدان تاڤيستوك، 19 نوفمبر:
"سئمتُ العجز عن الكتابة إلا إليكِ. مضطجعةً على الكرسي. الأمرُ ليس سيئاً، ولكني أقول لك ذلك لأستجلب تعاطفك، وأنتزع جانب الحماية والرعاية فيك، فتُمهِّدي لي طريقاً أسلكُه فأخلص من الاستنزاف الدائم لحياتي من قِبلِ الناس... لماذا أُحمِّلُك أنتِ كُل ذلك على عاتِقك؟ أحسب أنها ضرورة ما نفسية، وهي من الأشياء الحميمية التي هي من فطرة المُحِبين وغريزتهم في أي علاقة. أنا أجزعُ من هذا الألم في ظهري، وإن كنتُ مثلك ما جزعتُ ولكنتُ جلدةً قوية... لكن ألا ترين، يا حمارة ڤيتا ويست، أنني سأزيدك إرهاقاً يوماً ما من هذه الأيام (أنا أسنُّ منكِ بكثير)؟ فلا بد أن آخذ حذري قليلاً. من أجل ذلك أُعوِّلُ على التسجيل لا على المشاعر. لكن الحمارة ڤيتا ويست تعلم أنها اقتحمت أسواراً أكثر من أي أحد".
فراغ... انتهت الصداقة بين أديبتين من عمالقة الأدب الإنجليزي، محملةً بالشغف والشوق، أفكار وأحداث وتاريخ يمتد 1922-1941، وفرصةٍ لقراءاتٍ مغايرة تحيي ڤيرجينيا الإنسان، وتفرض أهمية كواليس الكاتب وأرشيفه ورسائله - والتي تنشر لأول مرة عن دار لغة للنشر والتوزيع بترجمة وتقديم: علي أيمن الشيخ، تحرير ومراجعة: هدير خالد - لكنها تحيلك بعد الامتلاء إلى فراغ وحزن صامتين.