لماذا المُبدِعونَ قليل؟ هذا أمرٌ بديهيّ. فالمُبدعُ خلَّاقٌ أصيل، وإنَّ طريقَ الأصالةِ لَوَعرة. فلا عجبَ لقلَّةِ سالكيها. أمَّا العجبُ، العجب كله، فَفي كثرةِ المُبدعين (المُدَّعين) في زمننا هذا. اختلطَ الحابِلُ بالنَّابلِ اليوم، فلم يعُد أحدُنا يُميِّزُ شيئًا من شيء. ومع طغيانِ وسائلِ التواصلِ الاجتماعيّ، طغى التَّقليد وساد. في كلِّ مجالٍ وواد. أدبيًّا وفنِّيًّا، بل وشخصيًّا عاطفي أيضًا. وقد كتَبَ الرَّاحلُ أحمد خالد توفيق يقول:
"ليتنا، أنا وأنتِ، جئنا إلى العالم قبل اختراع التلفاز والسينما،
لنعرف هل هذا حبٌّ حقًّا أم أننا نتقمَّص ما نراه!"
قد يقول قائلاً: "ولماذا تفترضُ أنَّ التقليدَ مثلبَة؟ ألا يُقلِّدُ بعضُ المُبدعين بعضًا، ويقتبِسُ بعضهُم مِن بعض؟". والجوابُ عن هذا التساؤل مُركَّب. بلى، قد يقتبِسُ بعضُ المُبدعين من بعض. وعلى هذا الأمرِ دلائل تُعَدُّ فلا تُحصى. فإنَّ كُتَّابَ اليوم، على سبيل المِثال، اقتبسوا من القُدماءِ أساليبَهُم وفنيَّاتِهِم وبعضَ مواضيعِهِم. مثلما اقتبسَ القُدَماءُ من أسلافِهِم أيضًا، واقتبسَ أسلافهُم مِمَّن سبقوهُم. وعلى رأيِ الناقِد الأدبيِّ المعروف هارولد بلوم، فإنَّ سُنَّة الاقتباس هذه تُسمَّى "التأثُّر". وقد أفرَدَ ناقِدُنا لهذا الموضوع كِتابًا بحِياله، عنوانه "قلقُ التَّأثُّر". إنَّ التأثُّرَ أمرٌ محمود وصِحِّيٌّ، ولا مفرَّ منه. أمَّا التقليد فمذمومٌ ومُضِرٌّ، ويا ويلتا مِنه!
إنَّ أفرادَ هذا الجيل، في جُلِّهِم، لا يتأثَّرون. بل يُقلِّدون. وقد يقولُ قائل، ذات القائل: "وما الفرق بين المتأثِّر والمُقَلِّد، أليسا سيَّان؟". كلَّا. أمَّا المتأثِّرُ، فينتقي ما يلائِمُ ذائقتَهُ الخاصَّة، من غيرَ ضغوطٍ خارجيَّة، ثُمَّ يُضفي لمسَتَهُ وشيئًا من روحِه. وأمَّا المُقلِّدُ، فيأخذُ ما يلائِمُ ذائقةَ الجمهور، الرَّائج، التّرِند . من غيرِ أن يُخضِعَهُ لذائقتِه الخاصَّة – هذا إن كانت ذائقتُه لا تزالُ سليمةً، ولم يشهها فَرْطُ التَّقليد. وهُنا تكمُن المشكلة. إذ لا يخفى على بعضِنا، أو جُلِّنا، أنَّنا سُرعان ما سنصيرُ محضَ قوالبَ تْرِندِيَّة، منزوعة الذائقة. وها نحنُ أولاءِ نرى بأمُّ أعيننا، حاليًّا، كيفَ صارَ كُلُّ شيءٍ عُرضةً لوباءِ التّْرِند. فالموسيقى صارت تْرِند، والغناءُ صارَ تْرِند، والكِتابة الأدبيَّة صارت تْرِند، والقراءةُ صارَت تْرِند . وحتَّى الطعامُ والشرابُ، وتعليمُ المِنصَّات، وحفلات الزفافِ والتخرُّج وكشف أجناس الأجِنَّة، وأشهُر العسل، وبِرّ الوالدين، كلُّ ذلكَ صار تْرِند . صُوَرٌ وحركاتٌ ودموعٌ وضحكاتٌ يُشبِه بعضُها بعضًا حدَّ التطابق من غير امتياز. هو ذو زمنُ السُّرعة والإشباع التِّقَني، وهيَ ذو نتيجَتُه: الاستسهال. والتّْرِند هو أبرزُ تجلِّيات الاستسهال في هذا الزمن، وأن السُّرعةَ والاستسهال لا يُنتِجانِ إلَّا زبَدًا سيذهب جُفاءً لا محالة، ولن يذكُرَهُ الناس. وهذه أيضًا إحدى خصائصِ التّْرِند، فترى النَّاسَ لا يذكرون إلَّا التّْرِند الحاليّ، ثُمَّ لا يلبثُ هذا التّْرِند أن يُنسى هو الآخر فورَ بروزِ غيره. وعفا الله عن كونديرا الذي فَطِنَ لِمآلاتِ زمنِ السُّرعة وأوبئتِه، فدبَّجَ كتابًا يتغنَّى فيهِ بالبُطء قائلًا:
"ثمة حبلٌ خفيٌّ يربِطُ البُطءَ بالتذكُّر، والسُّرعةَ بالنسيان!"
وقد يصِحُّ أن نقول، بعد إذن كونديرا، إن ذات الحبلِ الخفيِّ يربِطُ البُطءَ بالأصالة، والسُّرعةَ بالتَّقليد.
وهُنا، قد يقول القائل: "إذًا، الأمرُ سهل. من اليوم سأتخلَّى عن السُّرعة لأصيرَ أصيلًا!". ويا ليتَ الأمرَ بهذه السهولة أيُّها القائل! إنَّ هذا القولَ بحدِّ ذاتِهِ لَدليلٌ على أنَّكَ ابنُ زمنِ السُّرعة حقًّا! قد يقتنع أحدُنا أنَّ في السُّرعةِ لعنةَ التَّقليدِ والتّْرِند، وفي البُطءِ نعيمَ الأصالة. ولكن، هل سيقدرُ على الانعتاق بسهولةٍ من زمنِه؟ على الرُّغم من كلِّ ما سبقَ ذِكرُه، فإنَّ هذا الزَّمنَ هو زمنُ السُّرعةِ والتّْرِند حقًّا، ومُحاولة الانعتاقِ منه قد تُشبِهُ مُحاولةَ سلخِ الجِلدِ عن اللحم. وإنَّ لها ثمنًا باهظًا، ألا وهوَ: النَّبْذ والإقصاء. ويكون أحدُنا بذلكَ قد اختارَ سلوكَ الدَّرب الوعر، غير المطروق – على طريقةِ الشاعر القديم روبرت فْرُست حين قال:
"دربانِ تشعَّبا في غابةٍ، فاخترتُ الذي قلَّ سالِكوه!"
وإنَّ هذا الثَّمن، في زمنِ التَّقليد والمُجاملاتِ الاجتماعيَّة المُفرِطة هذا، صعبٌ وباهِظ حقًّا. فالنَّأيُ عن السُّرعةِ والتَّقليدِ اليوم نأيٌ عن الحياةِ المُعاصِرة، ومَوتٌ بصورةٍ ما. ولكن، قد يجِدُ بعضُنا في هذا النَّأيِ والموتِ المجازيِّ حياةً ما، حياةً أفضل، أو لنقُل: سُموًّا على الحياة. ألَم يربِط فيلسوفُنا عبد الرحمن بدوي بينَ الموتِ والحياة حين قال:
"فكأنَّ الحياةَ إذًا تعشقُ الموت، لأنَّ بالموتِ علاجها!"
أوليسَ هذا ممكنًا إذًا؟ ممكنٌ طبعًا. ليسَ سهلًا، ولكنَّه ممكن. ولا يُقدِمُ عليهِ إلَّا المُريدُ حقًّا . الأصيلُ حقًّا.