فيلم "الأبدية ويوم" للمخرج ثيودوروس أنجيلوبولوس، الذي رحل عن الدنيا قبل أيام في حادث سير مؤسف فيما كن يعمل على تصوير فيلمه الجديد، وهو مخرج يوناني الجنسية درس الحقوق، واشتغل بالمحاماة لفترة وجيزة، درس بعدها السينما في فرنسا، ثم عاد لليونان حيث عمل في النقد السينمائي، إخراج أول أفلامه سنة 1965، ولكنه لم يتمه، أخرج بعده عدة أفلام. وفي سنة 1997 أخرج فيلم "الأبدية ويوم واحد"، الذي فاز بالسعفة الذهبية في مهرجان كان سنة 1998. وهذا المخرج شاعر وكاتب وناقد. إن الإحاطة بشخصية المخرج تساعد على إلقاء الضوء على هذا العمل – القصيدة السينمائية – قصيدة عن الحنين تنفذ عميقاً في مشاعر المشاهد، وتحرك فيه أرق العواطف.
بطل الفيلم ألكسندر كاتب وشاعر وروائي يعيش وحيداً بعد أن توفيت زوجته في بيت بجانب البحر، وتعيش معه مدبرة المنزل بالإضافة لكلبه، وفي المدينة نفسها تعيش ابنته المتزوجة. وهو يقول عن نفسه: "لا شيء من حولي إلا الصمت، انظر إلى المنازل المجاورة، وأتخيل من فيها". المنزل تأثر بزلزال والكسندر يشعر أن مرضه قد تفاقم وأن أيامه قد باتت قليلة بعد أن صارحه الطبيب بذلك، فيقرر دخول المستشفى، لذا يصرف مدبرة المنزل، ويلملم أوراقه ويصطحب كلبه إلى بيت ابنته. في الطريق يلتقي أمام إشارة ضوئية بطفل اندفع إلى تنظيف زجاج السيارة، إلا أن الشرطة تطارد هذا الطفل ورفاقه، فيحمله ألكسندر في سيارته، ويساعده على الهرب، ثم يكمل طريقه إلى منزل ابنته التي ترفض قبول الكلب لأن زوجها لا يريده كما أنه يخبره بفظاظة ببيع البيت والنية لهدمه الأمر الذي يؤثر كثيراً على نفسية ألكسندر خاصة عندما تبدأ ابنته بقراءة رسالة من زوجته موجه له. في اليوم التالي يلتقي ألكسندر بالطفل نفسه بظرف صعب حيث تخطفه عصابة تتاجر بالأطفال الغرباء، فيشتري الطفل ويقرر إعادته إلى بلده الأصلي ألبانيا.
تدور أحداث الفيلم هذه فقط خلال يوم واحد متنقلا بين زمن مضى من حياة بطل الفيلم والزمن الحاضر، إضافة إلى فترة تعود إلى القرن التاسع عشر، ونتعرف فيها على شاعر يوناني أحب بلده، ولكنه يعيش خارجها، ويقرر العودة إليها من دون أن يعرف كلمة واحدة من لغته الأم. وكان ألكسندر يكتب مادة عن هذا الشاعر ولم يتمها.
يبدأ الفيلم ذات صباح باكر بلقطة لمنزل تستمر فترة وصوت من خارج الكادر ينادي ألكسندر. نشاهد بعدها طفلاً يغادر سريره متسللاً ليلتقي أصحابه للسباحة، هذا الطفل هو الكاتب في طفولته، ومن خلال حوار الطفل مع أقرإنه يقول أن جده قال له إن الزمان عبارة عن طفل يلعب بالزهر على شاطئ البحر. ثم ينتقل إلى الزمن الحاضر.... وهكذا ومن خلال ما يجئ في رسالة الزوجة المذكورة، ومن خلال حديثه – ألكسندر مع الطفل... ومن خلال تذكر الشاعر من الزمن التاسع عشر نسمع حوارا فلسفياً رقيقا يعبر عن حنين هذا الكاتب الذي يشعر أنه سيغادر الدنيا إلى كل ما مر في حياته من أحداث.
يقول المخرج إن فيلمه هذا عن رجل في آخر يوم من حياته وهو مستوحى من مصير الممثل "جيان ماريا فولونته" الذي مات ونحن نصور فيلم "نظرة أوليسيس" في البوسنة، فبعد أن عبرنا الحدود لنفترق توفي. وكان هذا آخر يوم له وآخر رحلة".
صور الفيلم بأسلوب رقيق ومدهش وبحركة كاميرا هادئة تتناسب مع موضوع الفيلم الفلسفي لا، بل تغنيه فاللقطة بعيدة أحياناً، أو يغطيها الضباب وأحياناً مقربة، بالإضافة إلى اختيار أماكن التصوير المناسبة. وهناك لقطات لا تنسى فعلاً منها اللقطة للطفل، وهو يحرق أمتعه صديقه سليم الذي دهمته حافة، وتوفي فتسلل بعدها للمشرحة، وكشف عن وجهه، وسرق ملابسه وأحرقها مع مجموعة من الأصدقاء – كانت جنازة مهيبة تحفر عميقاً في ذاكرة المشاهد. وكذلك مشهد للطفل نفسه وهو يغني أغنية رقيقة، أو المشهد الذي يجري في الحافلة حين يركب شاب يحمل علماً أحمر كان يسير في مظاهرة ونسمع أصواتها، ثم تصعد فرقة موسيقية، وبعدها الشاعر القادم من القرن التاسع عشر.
إن القطع المتداخل في هذا الفيلم والتنويع في المشاهد التي تجري في أزمنة مختلفة يحدث في الفيلم بسلاسة مع أنه قد يربك بعض المشاهدين لفترة، لكن الأحداث لا تلبث أن تتضح. ولقد كانت الموسيقى التصويرية لهذا الفيلم القصيدة من التراث الشعبي اليوناني موقفه بشكل جعلت أحد النقاد يقول إننا أمام ملحمة "هوميروس حديثة".