خيال الظل هو أحد أقدم الفنون الشعبية التي عرفها الإنسان، يقوم على تحريك عرائس مصنوعة من الجلد أو الورق خلف ستار أبيض مضاء، بحيث تُرى ظلالها وهي تتحرك وتتكلم. وقد ارتبط هذا الفن بالفرجة الجماهيرية في الأسواق والمناسبات الشعبية، وكان في جوهره أكثر من مجرد تسلية؛ إذ شكل وسيلة للتعبير الفني، والتربية الأخلاقية، بل والمقاومة الاجتماعية والسياسية. كان الناس يلتفون حول المخايل في ليالٍ طويلة، يضحكون من شخصياته، لكنهم في الوقت ذاته يدركون أن هذه الشخصيات الرمزية تخفي وراءها نقدًا جريئًا للواقع الذي يعيشونه. ومن هنا اكتسب خيال الظل طابعًا فريدًا جعله جزءًا أصيلًا من الثقافة الشعبية في مصر والشام والعراق والهند وغيرها، حيث امتزجت فيه الفكاهة بالحكمة، والضحك بالمعنى العميق.
وفي مصر المملوكية، ظهر الطبيب والشاعر ابن دانيال الموصلي (ت 710هـ)، الذي نقل هذا الفن من مجرد حكايات شعبية إلى مستوى أدبي رفيع. ففي كتابه الشهير «طيف الخيال»، كتب ثلاث بابات (مسرحيات ظل) تعد من أقدم النصوص المسرحية العربية المكتملة التي وصلتنا. لم يكن ابن دانيال مجرد مؤدٍ، بل كان مفكرًا وفنانًا استطاع أن يوظف خيال الظل ليكشف واقع عصره المملوكي بما فيه من فساد سياسي، وانحراف اجتماعي، وتناقضات ثقافية. لقد استخدم المراوغة الفنية والرمز ليعبر عن نقده الحاد، فصاغ عالمًا دراميًا تتصارع فيه الشخصيات البشرية والحيوانية، وتتحرك فيه الصور الساخرة لتجسد صراع السلطة والمجتمع.
ما يميز «طيف الخيال» أنه لم يكن مجرد ترفيه، بل وثيقة فنية وسياسية. ففي إحدى البابات نجد صراع الديوك والثيران والكباش، وهو صراع رمزي يعكس النزاع بين أمراء المماليك على الحكم. وفي شخصية الفقيه «عفلق» نرى صورة ساخرة لرجال الدين الذين باعوا ضمائرهم للسلطان، بينما في شخصية البهلوان «حسون الموزون» يظهر وجه آخر من وجوه المعاناة الشعبية؛ إذ يقف على السيوف، أو يتسلق الحبال مخاطر بحياته طلبًا للرزق، في صورة تكاد تختزل مأساة الفقراء الذين يعيشون على حافة الخطر. هذه الرمزية جعلت من خيال الظل فنًا سياسيًا بامتياز، لأنه خاطب الوعي الجمعي بلغة يفهمها الناس، وفي الوقت نفسه تجنب المواجهة المباشرة مع السلطة.
وقد أتقن ابن دانيال توظيف الأدوات الفنية المتنوعة في نصوصه. استخدم الشعر الفصيح والعامي، والدوبيت والموشح، واستدعى الأمثال الشعبية والحكايات التراثية من «ألف ليلة وليلة» و«مقامات بديع الزمان»، كما ضمّن اقتباسات من القرآن والأحاديث النبوية والنصوص المسيحية، ليؤكد أن نصه لا ينتمي إلى ثقافة واحدة، بل هو نتاج تلاقح ثقافي واسع. كما أظهر وعيه كطبيب، فأدرج إشارات إلى الأمراض والعلاجات والصيدلة، ليجعل من النص صورة بانورامية للحياة اليومية في القاهرة المملوكية.
إن قراءة «طيف الخيال» تكشف لنا أن خيال الظل لم يكن هامشًا ثقافيًا، بل هو أرشيف بديل للتاريخ، يعرض لنا صورة المجتمع من أسفل، من خلال أصوات البسطاء والمهمشين، لا من خلال خطاب المؤرخين الرسميين. فهو يوثق حياة الأسواق والطرقات، وممارسات أرباب الملاهي، ومعاناة البهلوانات، ويضعها جنبًا إلى جنب مع نقد السلطة وألاعيب السياسة. إنه تاريخ غير رسمي، لكنه أكثر صدقًا وحميمية من السجلات السلطانية.
واللافت أن العلاقة بين هذا الفن والسلطة كانت ملتبسة. ففي بعض العهود، ضُيِّق على أرباب الملاعيب والمخايلين باعتبارهم مفسدي الأخلاق، بل وصل الأمر إلى إعدام بعضهم إذا شك السلطان في تهديدهم لأمنه. وفي أوقات أخرى، استُدعي هؤلاء الفنانون إلى قصور الحكم لإحياء الاحتفالات، وأُغدقت عليهم العطايا تقديرًا لمهارتهم. هذا التذبذب يكشف عن إدراك السلطة لقوة الفن الشعبي، فهي تخشاه بوصفه محفزًا للوعي، لكنها تحتاجه لإمتاع العامة وتسكين غضبهم.
إذا كان هذا هو وجه خيال الظل في القرن السابع الهجري، فما علاقته بواقعنا اليوم؟ الحقيقة أن هناك شبهًا كبيرًا بين المخايل القديم وصانع المحتوى الرقمي المعاصر. فكلاهما يعمل على شد انتباه الجمهور، وتقديم فرجة تجمع بين المتعة والفكرة. المخايل كان يقف وراء ستار يحرك عرائسه ليُضحك الناس ويجعلهم يفكرون، أما صانع المحتوى اليوم، فيقف أمام كاميرا أو شاشة هاتف، يحرك صورًا ومقاطع وفيديوهات، ليبث عبرها رسائل سياسية أو اجتماعية مغلفة بالضحك. وكما كان ابن دانيال يوظف الرمز والسخرية للهروب من بطش السلطان، نجد أن صانعي المحتوى المعاصرين يستخدمون التورية والإيحاء والميمات الإلكترونية (الصور والفيديوهات الساخرة المنتشرة على وسائل التواصل)، لتجاوز رقابة الدولة أو رقابة المنصات.
بل إن مفهوم «الفيديو القصير» أو «المشهد الساخر» على وسائل التواصل الاجتماعي ليس بعيدًا عن فكرة «البابة» القصيرة التي كان يعرضها ابن دانيال لجمهور الأسواق. كلاهما يعتمد على اللغة الشعبية المباشرة، وعلى المزج بين الجد والهزل، وعلى الاستعارة الرمزية التي تجعل من التسلية وسيلة للتفكير. وإذا كان خيال الظل قد مثّل في عصره وسيلة للمقاومة الشعبية، فإن صناعة المحتوى الرقمي اليوم تؤدي دورًا مشابهًا، حيث تتحول المقاطع الساخرة إلى أدوات لنقد السلطة، أو فضح الفساد، أو كشف التناقضات الاجتماعية.
ومن هنا تأتي أهمية نشر «طيف الخيال»: تحقيق جديد لكتاب ابن دانيال عن الحياة في القاهرة في العصور الوسطى، الصادر عن دار بريل – Brill في ديسمبر 2024 (ليدن – هولندا)، ضمن سلسلة الحضارة العربية والإسلامية (المجلد 12). كأول تحقيق علمي كامل لنص ابن دانيال، يصدر بعد أكثر من قرن على اكتشاف مخطوطاته والشروع في دراستها، ليضع بين أيدينا نصًا محررًا بعناية يوازي في قيمته التاريخية والأدبية ما يمثله في مكانته التراثية والفكرية.
فهذا العمل لا يخص الماضي فقط، بل يمد جسورًا إلى الحاضر. إعادة نشره تعني الاعتراف بأن المسرح العربي الشعبي يمتلك قيمة عالمية، وأنه يمكن مقارنته بأهم التقاليد المسرحية في العالم. كما أن هذه النشرة تتيح للباحثين والقراء في مختلف اللغات الاطلاع على نصوص ابن دانيال، ودراسة جذور الثقافة الشعبية العربية، وربطها بالفنون المعاصرة. إنها لحظة تؤكد أن خيال الظل ليس تراثًا منسيًا، بل إرثاً حياً، يتجدد في كل عصر بأشكال جديدة، من ستار القماش في أسواق القاهرة المملوكية إلى شاشة الهاتف في يد صانع المحتوى الرقمي.
إن «طيف الخيال» هو طيف يمر عبر العصور؛ من الماضي المملوكي حيث كان الناس يضحكون على عرائس الجلد والورق، إلى الحاضر الرقمي حيث يضحكون على الفيديوهات والميمات. لكن الضحك في الحالتين لم يكن غاية في ذاته، بل كان وسيلة للوعي والاحتجاج. وهذا هو سر خلود هذا الفن، وسر عودته اليوم عبر وسائط جديدة. فكما كان المخايل يحرك العرائس ليكشف المستور، يحرك صانع المحتوى الرقمي اليوم الصور والفيديوهات ليكشف ما يخفى وراء الخطاب الرسمي. وكلاهما يؤكد أن الفن، في جوهره، هو ظل للخيال، لكنه في الوقت ذاته مرآة للواقع، ونافذة نحو التغيير.