"ابتسم، كُن إيجابيًا، لا تحزن، لا تيأس، لا مستحيل، الإرادة تصنع المعجزات، كُن سعيدًا، لا تقلق"
لا بد أنك ترى إحدى هذه العبارات، أو جميعها، بشكل شبه يوميّ، أو يوميًّا حتى، في عملك أو جامعتك أو حتى منزلك. اعتاد إنسان العصر الحديث مؤخراً على تضخيم التفاؤل والفرح والإيجابية، حتى لا يكاد أي حائط يخلو من هذه العبارات؛ برمجة عقلية بصرية على السلبية الدائمة للحزن والإيجابية الأبدية للفرح. يبدو هذا ظاهريًا أمرًا جيدًا يُساهم في تخطي الصعاب والاستمرار في الحياة، إلا أنّ المبالغة فيه إلى حد تغيير المفاهيم يؤدي إلى قلب الموازين. لطالما تردد على مسامعنا عبارات عن التوازن في الحياة بين العمل والحياة الشخصية، بين التعب والراحة، لكن لا أحد يسلّط الضوء على التوازن في المشاعر، التوازن بين الخير والشر داخلك، التوازن بين المشاعر الإيجابية والسلبية؛ فيمكن للحزن أن يكون إيجابيًا، ويمكن للفرح أن يكون سلبيًا.
ما يحدث فعليًا أننا نعتقد أن الفرح يعني الغياب الكامل الجذري للحزن، والاطمئنان الغياب الكامل للخوف، والهدوء الغياب الكامل للعواصف؛ ومن ثم نبالغ في قيمة الفرح والاطمئنان والهدوء متجاهلين حتمية تعاقب الصعود والهبوط اعتقاداً منا أن هذا سيمحو تمامًا كل آثار الحزن والخوف والعواصف، إلا أن ما يحدث على العكس تمامًا؛ تتراكم طبقات المشاعر الإيجابية المبالغة فوق المشاعر السلبية، فتحولها مع مرور الزمن إلى نوابض مضغوطة كقنبلة موقوتة قد تنفجر في أي لحظة، وفي غير مكانها.
يأتي الفيلم الكرتوني قلبًا وقالبًا "Inside Out" في هذا السياق لوحةً ترسم لنا هذه الفكرة بجلاء. يصوّر الفيلم في جزئه الأول قصة فتاة تنتقل عائلتها من مدينة إلى أخرى، فتواجه تغييرات لا حصر لها في الحياة. تأتينا الأحداث من داخل عقلها لنحصل على تصوّر حول كيفية تشكيل الشخصية وصراع المشاعر الأساسية. تكمن المشكلة هنا في سيطرة الفرح طوال الوقت وكتم مشاعر الحزن، رغم صعوبة التغيير والتكّيف معه، فيتفاقم الأمر وتُهدم أجزاء ضخمة من الذات داخلها، حتى يصل الأمر إلى نوع من الانهيار الكامل لنظام الذات؛ ومن ثم اتخاذ قرارات مصيرية مؤذية كالهرب من المنزل. ينتهي التخبط والانهيار ببساطة بالسماح للحزن بأن يحدث؛ تبكي الفتاة وتخبر والديها بكل ما كانت تمّر به من صعوبات ومشاعر مختلطة من الحزن والخوف والغضب.
يبني الجزء الثاني من الفيلم على هذه الفكرة، ولكن في فئة عمرية مختلفة تشهد أيضًا مرحلة انتقالية. يدور الصراع بين فريق المشاعر الأساسية وفريق المشاعر الثانوية وطريقة كل فريق في التعامل مع الأزمات. يضم الفريق الأساسي الفرح والغضب والحزن والخوف والاشمئزاز، بينما يضم الفريق الثانوي التوتر والغيرة والإحراج والملل. يبدو الخوف في بداية الأمر مسؤولاً عن السلامة والتوتر عن تخطيط المستقبل، مما يجعل المرء يشعر لوهلة بأن هذا كاف، لكن يتضح فيما بعد أن المرء بحاجة إلى كامل المجموعتين ليستطيع النجاة. الفكرة هنا أن الذكريات تُكّون قناعات والقناعات تُكّون جوهر الشخصية وجوهر الشخصية يحكم القرارات.
بنى الفريق الأساسي جوهر الشخصية على ذكريات جيدة، وأخضع الذكريات كلهن إلى فرز، وتخلص من كل الذكريات السلبية؛ مما أدى إلى تجاهل الأخطاء التي تبني بالضرورة منظومة دروس عن كل ما يجب تجنبه؛ وبذلك بُني نظام قناعات إيجابي مثالي. أما الفريق الثاني فقد بنى جوهر الشخصية على كتم المشاعر الأساسية والتركيز على التوتر كقائد لكل عمليات التفكير، فبنى نظام قناعات غير صحيح وافتراضات وخيالات سلبية حول ضرورة مجاراة المجتمع للحصول على القبول؛ وبذلك بُني نظام قناعات سلبي. يكمن الخلاف بين الفريقين في محاولات السيطرة الكاملة الدائمة، إما السيطرة للفرح أو للتوتر؛ مما يتسبب بانهيارات نفسية وأخطاء وقرارات محكومة بجوهر شخصية مشوّه مكون من جانب واحد؛ إما سلبي بالكامل أو إيجابي بالكامل، وذلك بالضرورة يهدم التوازن.
يكمن الحل حقيقةً في العودة إلى الجوهر المتوازن الذي يضم قناعات حقيقية متنوعة منبثقة عن ذكريات ومشاعر إيجابية وذكريات ومشاعر سلبية على شكل دروس، وذلك لاتخاذ قرارات عقلانية متوازنة وتجنّب الانهيار. يتوجب على المرء السماح لمشاعره بأن تكون، أن يتقبل ببساطة وجود المشاعر على اختلافها، دون أن يسمح لمشاعر إيجابية أو سلبية بأن تُسيطر بشكل تام فلا شيء جذريًا؛ للحياة ألوان وتدرجات أكثر بكثير من الأبيض والأسود. لندع الفرح والإيجابية تزدهر بوجود كل المشاعر الأخرى دون كبتها؛ لنعيش الفرح ولنغرق بالحزن، ولنعترف بالأخطاء ونتقبل التجارب السلبية، ونتعلم منها ونتخذ القرارات بناء على جوهر متوازن.