الحديث عن السينما وظروف إنتاجها لأمر شائك في عالمنا العربي فكيف بالحديث عن النقد السينمائي داخل الصحافة العربية
في البداية كان النقد محصورًا بالأدب والشعر والفلسفة، ومع اختراع الصورة الفوتوغرافية، فتحت إمكانية تمثيل الواقع من خلال تجميد الزمن، كما فتحت آفاقًا إبداعية جديدة في نسخ الواقع.
تقدمت تقنية القالب الفني الجديد تدريجيًا؛ من ثبات اللحظة في صورة، إلى الصور المتحركة، ثم إلى مشاهد للعرض العام في السينما..
في البداية، أقصرت تطلعات صناعة السينما الجديدة على المتعة والتسلية، لا بل كانت عملا أشبه بعمل السحرة، فعندما شاهد رواد المقهى الفرنسي أول فيلم سينمائي للأخوة لوميير عام 1895، واقترب القطار من الشاشة البيضاء المعلقة، هرع الجمهور خارج المقهى. يومها لم يكن من كتبة تفسر لظاهرة الصورة المتحركة أو تنظر إلى تسجيل اللحظة التاريخية لوصول القطار ونزول المسافرين. ولكن الكتابة عن هذا الاختراع الجديد تطور مع تطور الفيلم،، وبات متوازيا له، وكان كل منهما سببا ونتيجة للآخر.
مع بداية تحول السينما الصامتة من مجرد بدعة إلى وصف حقيقي للحياة، لم يعد مدى اعتبار السينما فنًا موضعًا للتساؤل، بل تعلق التساؤل بالآفاق التي سيسمو إليها هذا الفن الجديد في النهاية؟ حتى إن البعض راوده التفكير في احتمال أن نكون على عتبة ثقافة بصرية جديدة؟ وأمن المصلحون الاجتماعيون والنقاد الأدبيون في هذا العصر بقدرة الوسيط البصري الجديد على تعليم الشعوب، بنفس مقدار تعجيل الصحافة المطبوعة لعمليات تشكيل الآراء والتدريب على أنماط أخلاقية وثقافية ونشر الأفكار.
ومع انتقال الفيلم من عصر السينما الصامتة، اعتقد كثيرون أن وسيط الصوت الجديد سيكون بمثابة أداة تواصل قوية، لدرجة لن تصبح معها ثمة حاجة إلى تعقيب الناقد وتفسيره وتقييمه.
وعلى هذا، اعتبر الناقد راصدًا عمليًا للابتكار في السينما، واعتبرت مهمته كشف التغيرات التي تستحق الوقوف عندها للرأي العام، مثل ظهور قاعات عرض جديدة، والحديث في الأفلام المعروضة.
عرفت السينما نموًا سريعًا خلال القرن العشرين، فشاهدها جمهور أوسع، وأصبحت الأفلام مدتها أطول، وأخذت تتسم بزيادة تعقيد المحتوى. استدعت الأفلام الأكثر جوهرية نقد أكثر جوهرية وتدقيقًا، وقالوا إن النقد شيء جوهري لمستقبل السينما، وأكدوا سلطتهم النقدية بوصفهم محكمين للثقافة السينمائية. ويعود الفضل في القبول المتزايد للسينما بوصفها فنًا مستقلًا بدرجة كبيرة إلى دور النقاد في الدعوة إلى منتج وتقنية سينمائية أكثر إتقانًا، والإشارة إلى الحاجة إلى الإبداع الفردي، حتى تتمكن السينما من الوصول إلى مستوى رقي الفنون الراسخة.
شجع التناول السينمائي لأعمال أدبية شهيرة على تدفق مجموعات الممثلين وفرق العمل من عالم المسرح إلى السينما، وعلى ازدهار أفلام فنية مستندة على طموحات ثقافية أعلى.
وعمل إدخال الدراسات السينمائية إلى الجامعة في الجزء الأخير من القرن الماضي، على زيادة ارتباط النقد السينمائي مع التخصصات المعرفية الأدبية التقليدية والأعراف الأكاديمية التي ساعدت على اعتباره تخصصًا معرفيًا قائمًا بذاته.
مصطلح النقد وتعريفاته
تفترض وظيفة النقد السينمائي وجود مصطلح له معنى وحيد متفق عليه. بينما في الاستخدام الشائع خاصة، تختلط تعبيرات مثل عرض الفيلم Film review، ونقد الفيلم Film critic، وكاتب سينمائي film writer وصحفي سينمائي film journalist، وفي لغتنا الجميلة ضبط لغويًا واصطلاحيًا لكلمة نقد. قالت العرب في معاجمها: النقد هو تمييز الجيد من الرديء، وبيان محاسن الشيء وعيوبه، سواء كان ذلك في الأمور المادية كالدراهم، أو في الأمور المعنوية كالأعمال الفكرية والأدبية. كما يشير إلى إبداء الرأي حول شيء ما، سواء كان إيجابياً أو سلبياً.
ظهر تعبير عرض الفيلم مع بدايات السينما، وكانت مهمته تسجيل إصدار أفلام جديدة ووصف محتوياتها في وسائل الإعلام العامة. وظل العرض يميل إلى كونه وصفًا لقصة الفيلم يتضمن آراء ذاتية وتقييمية، تصاحبها في أغلب الأحيان أرقامًا لترتيب التصنيف.
بينما يشير مصطلح "نقد الفيلم" إلى التعامل مع الفيلم بوصفه واقعًا فنيًا ثقافيًا. ويكون مصحوبًا في أكثر الأحيان بمعايير أكاديمية تبحث في الفيلم باعتباره ظاهرة جمالية واجتماعية وتاريخية.
إن النقد السينمائي في منتصف القرن العشرين لم يحظ بالاحترام بوصفه نوعًا من الكتابة،
طور المنظور وممارسة الأدبي وعلم النفس وعلم الاجتماع والصحافة والتاريخ والعلوم السياسية والإعلام. وتشكل تلك الخطوط لمجال التخصص الآن دعائم للنماذج التحليلية في النقد السينمائي المعاصر.
يمكن اختزال النقد السينمائي بين إطارين:
أولهما الإطار النصي، ويركز النقد النصي على ما يُشَاهَد داخل الفيلم مثل الحبكة والشخصيات والموضوع والأداء والكفاءة الفنية. ويهتم بفيلم واحد، وكثيرًا ما ينشر في الصحف ووسائل الإعلام.
أما النوع الثاني من النقد فهو النقد السياقي، يتجاوز التركيز على فيلم واحد ليشمل معايير تحليل متعلقة بالسياق. ويتكامل هذا النوع بين العناصر الاجتماعية والسياسية والثقافية.
أنواع النقد في الصحافة العربية
تزامن النقد الأدبي مع انتشار الصحافة على يد مجموعة من منزلي العلوم والمعارف والثقافات الأجنبية المختلفة.
عرف كتّابنا كيف يقتبسون فكرة الصحف والدوريات الثقافية في أوروبا عصب الحياة الفكرية والأدبية، فيجعلوا من مجلاتهم مرآة لحركة مجتمعاتهم وتوجهاتها. ولم تتأخر الصحافة الثقافية عن السياسية، بل عاشت في كنفها وإلى جنبها. إلا أن ظهور الصحافة أواسط القرن التاسع عشر في عالمنا العربي كان الأدب هاجس المحررين، فطبعوا أخبارهم بأساليب أدبية. إضافة إلى أن هذه الصحف حرصت على تكريس صفحة أو أكثر للشؤون الأدبية... تأخر كثيرًا دخول النقد السينمائي المتعارف عليه اليوم في الصحف اليومية، وارتبط بتأخر دخول الفيلم السينمائي إلى المقاهي والمسارح بعد أن علقوا عليها الشاشات البيضاء. يمكن القول إن الكتابة السينمائية أخذت تتشكل مع تشكل الثقافة فيها عبر الترجمات وعبر الأفلام المستوردة والتي بدأت ترفيهية. ومن هنا نلاحظ ترابط النقد السينمائي وتطوره مع تطور الفيلم المحلي وعودة صناع الأفلام من الدراسات الأكاديمية في الخارج. وإذا أردنا توثيق الفترة الذهبية للكتابة النقدية فإن الستينيات والسبعينيات والثمانينات تشكلت معها أقلام النقاد والباحثين في صناعة الأفلام والتوثيق، وصولًا إلى انحسار الكتابة اليوم مع انحسار الإعلام الورقي.
غالبًا ما يختصر نقد السينما في الصحافة العربية بمفهومي المديح والهجاء والتسويق والترويج. والنقد السينمائي الذي يخصص له إعلام اليوم مساحة صغيرة للكتابة والتعبير، قد تحول إلى سلطة تستمد قوتها من سلطة الإعلام، وتختصر منهجيتها بنقاط محددة، بهدف التبسيط والوضوح تلبية للجمهور العريض، الأمر الذي أنتج أشكال كتابية مغايرة لمنهجية النقد. يستخدم في هذه الكتابات مصطلحات نقدية غير ثابتة، وتفتقر إلى القراءة البصرية وفهم عناصر الفيلم من سيناريو وحبكة وتصوير ومونتاج حتى أداء الممثلين.
المنهجية
تعتمد الصحف العربية اليومية على منهجية كتابة المقال الإخباري، مع تمايز الكتابات بين اختصاص وآخر باستخدام بعض المصطلحات الخاصة به. وهكذا يتمايز الخبر الاقتصادي عن الخبر القضائي أو الثقافي بالتعابير والمصطلحات المنقحة في المقال مع الحفاظ على الهيكلية الأساسية للمقال الصحفي.
تربط كلية الإعلام مادة النقد في معظم بلداننا العربية بتقنية الكتابة الإعلامية وتحيل الكتابة المتخصصة إلى النقد الأكاديمي والعلمي.
بغياب المنهجية والثقافة السينمائية، تفرز الكتابة النقدية في الصحف اليومية أنواع وأنماط وتشكل ظواهر لأشكال نقدية يمكن وضعها في خانات تصنيفية منها:
وهي أكثر الاتجاهات بروزًا. هذا النموذج نقرأ مثله كثيرًا، وهو لا يقول شيئًا. أنه مديح إنشائي، بلاغي، يمكن أن يصلح لأي فيلم. وقد يقابله مثال إنشائي آخر ولكن هجائي. والنتيجة ذاتها.
تتمثل بعدم قدرة الناقد على استخلاص ما يميز العمل السينمائي عن سواه. كتابة أحادية معممة. فتفرز الأفلام بحسب أنواعها، ويصبح مقالًا يصلح لجميع الأفلام السينمائية الواقعية او البوليسية أو الكوميدية إلخ ...
وهي الكتابة التي تستعير نصها من خليط لفظي وكلامي متعدد المصادر.
لا تنطلق من أي موقع أو نقطة ارتكاز. تختلط فيها المصطلحات النقدية، هذا النوع من الكتابة الصحافية يوقع القارئ في الالتباس. ونظن أن مثل هذه الكتابات من أسباب تنفير القراء من النقد. ونظن أيضًا أن هذا الالتباس مصدرها التباس اللغة والقصور في استخدامها. والسبب الآخر أن بعض الصحافيين قدموا من ثقافات غربية، وكتبوا في الصحف المحلية الأمر الذي أوقع التباسا واضحًا في التعبير بين ما يكتبون وما يفكرون، على سبيل المثال يكتبون العربية بإيقاع فرنسي أو إنكليزي على سبيل المثال لا الحصر.
وهي لا تدخل في متاهات التحليل، ولا في كواليس الالتباس، ولا في مخاطر النقد. تروي العمل، تسرده بأسلوب قريب من القارئ، وأحيانا مشوق. تتحدث عن العمل السينمائي كحكاية، وليس كنتاج فني مركب. إنه الأسلوب الذي يستهوي المسؤولين في الصحف، ويندرج في سياستهم التسويقية. ويجب ان نعترف أن هذا الأسلوب، في حال إجادته ليس سهلًا. لكن خطورة هذه الكتابة تفرغ الفيلم السينمائي من إشكاليته الفنية، وتبقى على سطح العمل من دون أن نتمكن من النفاد إلى عمقه.
وهي الكتابة التي يقع فيها معظم العاملين في الصفحات الثقافية، فخبر افتتاح عرض الفيلم مبني على الحرفة السريعة في صوغ الخبر بأدواته اللغوية والاصطلاحية الجاهزة. تقدم هذه الكتابة خدمة للفيلم السينمائي بالإعلان السريع عن بدء عروضه كما ترضي مهنية الصحافة انطلاقًا" من مبدأ السبق والتمايز فيما بينها. ولكن تبقى هذه الكتابات بمثابة الفعل الناقص والمقصر في تقييم العمل أو حتى وصفه، مقارنة مع الوقت والجهد المبذول في عملية بنائه وبغض النظر عن قيمته الفنية.
وهي الكتابة التي تنطلق من الخلفيات السياسية عن مضمون العمل السينمائي الفني والجمالي، وهذه الكتابات انتشرت في الستينات مع طغيان القضايا السياسية والأزمات والصراعات في العالم، والتي أفرزت انقسامًا واصطفافًا في المشهد الثقافي العالمي. وبغض النظر عن إيجابية أو سلبية الكتابة عن الأفلام التي حملت إشكاليات الصراع السياسي، بقي النقد من دون أي تقييم علمي وفني. فكانت الكتابات أقرب إلى لغة الخطابات والتجييش تعلو فوق القيمة الجمالية والفنية للفيلم إذا وجدت أو لم توجد.
نقد الممثل
تطور النقد السينمائي ومفردات النقد وتوسع الاهتمام بعناصر جديدة دخلت على الفيلم مع تطور مراحل السينما. من نظريات التصوير والمونتاج وكتابة السيناريو واللغة البصرية والمشهدية. إلّا أن عنصر التمثيل في بلداننا العربية بقي الغائب الأكبر في عملية النقد.
وبعيدًا عن التسميات والألقاب الجماهيرية للمثل العربي تكاد تخلو نصوص النقد من فقرات تسجل لحضور الممثل داخل العمل السينمائي بشكل تحليلي ومنهجي.
لم تتطور الجملة النقدية التي تصف الممثل داخل العمل السينمائي، بل تطورت مفرداتها الأدبية والإنشائية مثل أجاد وأتقن وحضور باهر إلى آخره من وصف إنشائي أدبي من دون الدخول في تكوين الشخصية والأداء الداخلي وحركة الممثل أمام الكاميرا وغيرها من التقنيات التي تفسر لنا كمشاهدين وظيفة ودور الممثل وبحثه في شخصيته وإدارة المخرج له.
برأينا أن التغييب في الكتابات النقدية في الصحف لدور الممثل كفعل إبداعي واقتصار التعريف بالمسميّات والألقاب مثل فتى الشاشة ووحش الشاشة والنجم والقدير، يعود إلى أسباب عدة منها النقص المعرفي في مدارس تمثيل الدراما والتقنيات الحديثة في تكوين الممثل. فبقيت الكتابة عن الممثلين من وجهة نظر انطباعية ووصفية إنشائية أدبية.
كيف نحلل الفيلم بصريًا؟
لا يمكن الجزم أن هناك طريقة واحدة ووحيدة وعالمية للتحليل والإخراج الفيلمي،
لأن هناك طرقًا متباينة ومتداخلة في غالبية الأحيان، فيها مثلًا من يركز على الجانب السردي/ النصي، ويدعى أصحاب هذه الطريقة بالمخرجين الأدباء، كما هناك من يركز على الجانب البصري/ المشهدي، ويدعى أصحاب هذه الطريقة بمخرجي الصورة،
وهكذا يبقى على محلل الفيلم أن يختار بين مجموعة من الأساليب التي تتناول الظاهرة السينمائية ليكون أسلوبه الخاص في مقاربة مشاهد أو متتاليات فيلمية، لكن بإمكانه الجمع بين أكثر من نظرية لتحميل نصه مضامين وملامح مختلفة.
وتختلف درجة الانفعال مع الصورة طبعًا من متلق باحث عن ذاته ورغباته فيما يشاهده من أفلام إلى متلق أقل انفعال، متلق يملك قدرًا معينا من الثقافة السينمائية، لكنه لا يملك الأدوات القادرة على الكشف والتحليل وإدراك الأبعاد الجمالية والفكرية.
إن الفيلم كمنتج ثقافي، متعدد الأصوات والخلفيات، يساهم بطبيعته في إنتاج خطابات نقدية موازية من مواقع جمالية وأيديولوجية متباينة، قد تكمل بعضها البعض كما قد تتعارض فيما بينها تمامًا.
من هنا وجب على النقد أن يجدد أدواته ومفاهيمه ليقارب الفيلم من مواقع ومرجعيات متباينة، وهذا من شأنه إغناء التجارب، لا سيما منها الحديثة، لكن ذلك يظل رهينًا بمدى تطوير الفيلم لأدواته وتصوراته وآفاقه، إذ لا يمكن لأفلام تتحدث بالأسلوب نفسه، وتخلو من التجديد النوعي والتجريبي في اشتغالها الفني والتقني أن تحفز المحلل والناقد على الإبداع والتجريب.
اليوم مع تقدم التقنية وحق الوصول للمعلومات كحق من حقوق الإنسان، تتطلب الكتابة النقدية الدخول أكثر في تحليل عناصر الفيلم من دراسة السيناريو، وتحليل الحبكة، والشخصيات، والحوار، والمواضيع.
تحليل الشخصيات ودوافعها وعلاقاتها بعضها ببعض وفهم ردود أفعالها النفسية تجاه الأحداث. يشمل تحليل الفيلم مدى تأثيره في المجتمع، والرسائل التي يحملها، والقضايا التي يطرحها. دراسة القيم والمعتقدات التي يعكسها الفيلم. تقييم الفيلم من حيث جودته الفنية، وتأثيره في المشاهد، ومساهمته في صناعة السينما.
أهمية التحليل:
يساعد تحليل الفيلم على فهم أعمق للرسائل التي يحملها، والعناصر التي يتكون منها.
بات على الناقد اليوم تفكيك العناصر السمعية والبصرية في الفيلم لأهمية تأثيرها في تجربة المشاهدة. قراءة الصورة والضوء والتصوير وما يتميّز من حركة كاميرا وزوايا توزيع العناصر داخل الإطار: كيف توضع الشخصيات، العناصر، الفراغ؟ هل هناك توازن أم توتر بصري؟
نوع الإضاءة: طبيعية أم اصطناعية؟ مظلمة أم ساطعة؟ الإضاءة الجانبية، الخلفية، الظلال... جميع هذه العناصر تؤثر في المعنى، وعلى عين المشاهد وعلى مشاعره.
وضعية الكاميرا: ثابتة، متحركة، قريبة جدًا، زاوية منخفضة: قوة وهيمنة، زاوية عالية: ضعف وخضوع...إلخ، لكل منها دلالة درامية.
لنشاهد معًا، ونركز على زوايا الكاميرا ووضع الشخصيات داخل الكادر أو إطار الصورة، مقطع من فيلم "ذيب" للمخرج ناجي أبو نوار.
كيف رُبِطَت اللقطات في التوليف؟ هل هناك قطع سريع أم بطيء؟ ماذا تعني الانتقالات؟ ماذا عن الصوت، ونعني استخدام الموسيقى التصويرية، والمؤثرات الصوتية، والحوار، وتأثيرها في المشاعر والأحاسيس ودلالة المكان والثقافة والهوية. هنا مقدمة الفيلم القصير "الحذاء".
ماذا عن رمزية الحذاء والملابس التي تعكس الحالة الاجتماعية، النفسية، الزمن، الثقافة...
ماذا عن اللون ومدلولاته وتأثيره في الجمهور. ما هي الألوان المسيطرة؟ هل هناك ترميز لوني؟ الألوان الدافئة مقابل الباردة – كيف تعبر عن مشاعر أو حالات نفسية؟
لفتني في بعض الأفلام الأردنية التركيز عن معنى اللون داخل الحوار وفي الحبكة... لنشاهد مقطعاً من الفيلم القصير "الحذاء" للمخرج محمد علّوه.
التركيز دائما على دلالات اللون في الأفلام هنا اللون الأحمر ودلالاته دراميًا ورمزيًا ...مقطع سائق التاكسي من فيلم "حكاية شرقية".
اختم بالدلالات البصرية بعنصر المكان في السينما، يلعب المكان دورًا حيويًا في خلق الواقعية والمتخيل. فهو ليس مجرد خلفية للأحداث، بل عنصرًا أساسيًا في بناء القصة وتأثيرها في المشاهد. المكان الواقعي يربط الفيلم بواقع ملموس، بينما يتيح المكان المتخيل للمخرج إطلاق العنان لخيال واسع لخلق عوالم فريدة.
المكان الواقعي يمنح الفيلم الواقعية والمصداقية، خاصة في الأفلام الوثائقية التي تهدف إلى تسجيل الأحداث كما هي.
كما يمكن للمكان الواقعي أن يثير مشاعر قوية لدى المشاهدين، خاصة إذا كان مرتبطًا بتجاربهم الشخصية أو تاريخهم. وفي التأثير في السلوكيات:
يرى البعض أن السينما الواقعية يمكن أن تؤدي دورًا في توجيه سلوكيات المشاهدين وتشكيل وعيهم، خاصة من خلال تصوير الفئات المهمشة أو المظلومة.
أما المكان المتخيل، فيتيح للمخرج بناء عوالم خيالية لا حدود لها، سواء كانت مستوحاة من الخيال العلمي أو الفانتازيا أو الأحلام.
يمكن للمكان المتخيل أن يكون وسيلة للتعبير عن الأفكار والمفاهيم المجردة، وتقديم رؤى فنية فريدة.
يمكن للمكان المتخيل أن يكون له تأثير كبير على خيال المشاهد، وإثارة مشاعر مختلفة، ودفعه للتفكير في قضايا مختلفة.
أما عن تداخل الواقع والمتخيل:
في العديد من الأفلام، يتداخل الواقعي والمتخيل، حيث يُوَظَّف أماكن واقعية في سياقات خيالية، أو العكس.
ويمكن للمكان المتخيل أن يستلهم من الواقع، ويأخذ منه عناصر معينة، ثم يعيد تشكيلها بطرق جديدة ومبتكرة؛ مما يخلق ديناميكية وتنوعًا بصرياً.
خير دليل على تداخل الواقع والمتخيل في المكان ودلالاته المتعددة: مقطع نزول وصعود الأدراج في فيلم "حكاية شرقية" الذي كتب النص السينمائي فيه أستاذنا الكاتب والناقد عدنان مدانات.
هل النقد وسيط للجمهور أم فعلًا تراكميًا في ثقافة الجمهور وذائقته؟
إن منهجية الكتابة النقدية في الصحف بغض النظر عن ظواهرها التي تقدمنا بها، تختلف عن منهجية الكتابة النقدية الاكاديمية، لكنهما يفيدان بعضهما من بعض، ويلتقيان في مسار واحد هدفه ترسيخ العلاقة بين السينما والمتلقي. النقد في الصحافة لا يستطيع أن يقوم بمنأى عن النقد العلمي، ولو اختلف عنه كثير الاختلاف. فالنقد فعل واحد، لكنه يأخذ سبيلين مختلفين يفترضهما واقع الفعل النقدي نفسه. في هذا المنحى لا بد للنقد السينمائي في الصحافة من أن يتكئ على معايير النقد، العلمي أو الأكاديمي، وعلى مفاهيمهما ومناهجهما ومعطياتهما، ولكن من غير أن يصبح أسيرها، أي نقدًا صارم ومنهجيًا وعلميًا. النقد الذي يمارس على شكل إخباري وإعلامي يومياً يختلف في جوهره عن النقد العلمي الذي يؤدي وظيفة أكثر نخبوية مختصة.
وما يجب الانتباه إليه أن النقد العلمي مكانة الكتاب أو الدراسة، أما النقد الصحافي فمجاله الصحيفة أو المجلة. وقارئ الكتاب هو حتما يختلف عن قارئ الصحيفة. ومن ثم فإن الخطابين النقديين يتوجهان إلى قارئ مختلف، قد يكون واحدًا في حالات كثيرة، لكن قراءته للنقد في الصحيفة سيكون مختلفًا عن قراءته للكتب النقدية.
منهجية النقد الصحافي إذن تختلف كثيرًا عن منهجية النقد العلمي. لكن النقد الصحافي لا يستطيع أن يؤدي عمله على خير وجه إن لم يرتكز على مداخل النقد العلمي.
صحيح أن النقد الصحافي هو في الغالب عمل متسرع لقارئ متسرع، لكن الناقد الصحافي الجاد يعرف كيف يكثف حملته النقدية ليعرضها على القارئ من غير إطالة أو تعقيد.
لم تعد السينما وكافة الأعمال الإبداعية قادرة على أن تقوم من دون الاتكاء على الصحافة ووسائل الاتصال. هذا جزء من الدور الذي تضطلع به الصحافة الثقافية. لكن هناك أمورا أخرى تقوم بها وأولها هو النقد، على هذا المستوى يجب أن يكون بنّاءً وواعيًا للدور الذي يؤديه ومحترمًا العمل الذي هو على المحك. ولطالما قرأنا في الصحافة - ونقرأ - مقالات مهمة، عميقة وصائبة ومحللة من دون إطالة. وبعض هذه المقالات يستحيل مرجعا يحتفظ به، ويذكر في الرسائل الجامعية والأبحاث.
إذا لم يكن مطلوبًا من النقد السينمائي في الصحافة أن يكون منهجيًا، فليس المطلوب منه أيضًا أن يكون انطباعيًا أو عفويًا. المطلوب أن يجمع هذا النوع من النقد بين الموضوعية والذاتية، بين المنهجية والبساطة. وفي رأي بعض النقاد أنفسهم على النقد الصحافي أن يستفيد من معايير النقد، وأن يجعلها ضمن ذاكرته، حتى وإن لم يستخدمها في المعنى المباشر. وثمة ظاهرة يجب التوقف عندها وهي إقبال صناع الأفلام على الكتابة النقدية في الصحف والمجلات ونشر ملخصات عن أبحاثهم. وهي ظاهرة عالمية قديمة نسبيًا. وهي تدل على رغبة صناع الأفلام في ممارسة النقد كفعل، يدفعهم إلى تملك أدواتهم التقنية، وإلى الإلمام بأسرار كتابة اليومي ومفرداته، وهو أسلوب بدأ يظهر في أعمال الحداثة وما بعد الحداثة، كتابة اليومي والتفاصيل اليومية غزت السيناريوهات والحوار المسرحية وحتى الأعمال الروائية والشعر.
طرح منهجية واضحة في الكتابة النقدية داخل الصحف، لجعل اليومي أكثر حضورًا وحفظًا، فالعمل الصحافي، وإن كان ينتمي إلى ما يسمى العمل العابر أو الزائل، بل وإن كان صنيع لحظته الفردية والعامة، يظل عملًا أساسيًا لا يمكن الاستغناء عنه البتة. بل هو، عمل يجمع بين اللحظة العابرة والتاريخ لكونه يؤرخ ويشهد للعمل الفني والثقافي، ولعصره بشكل عام.
برأينا أن منهجية الكتابة النقدية السينمائية في الصحف وتطويرها، تقع على مسؤولية المختبر الأكاديمي والتعليمي. فهذه المنهجية القائمة على سياسات الصحف اليومية التي تفرض الأشكال والأنماط الكتابية لا يمكن الرضوخ إلى نزعاتها الأيديولوجية أو الإقصائية القائمة على الاختزال. وهي مدعوة لتطوير مواد النقد في اختصاصها ليشمل التيارات النقدية الحديثة، وصولاً إلى تحرر الكتابة النقدية من الكتابة الإخبارية وجعلها اختصاصًا قائما بذاته، يرفد من الانفتاح التخصصي القائم في العالم يوميًا وتقاطع العلوم فيه، ونقصد تقاطع العلوم الإنسانية من سينما ومسرح وتشكيل وآداب وعلم اجتماع وعلم نفس وفلسفة...
لا نحمل هنا الصحافة اليومية مسؤولية نشر الدراسات والأبحاث، ولا نلغي الدور التواصلي التي تلعبه مع الجمهور اليومي العريض، المؤثر في الحياة الثقافية والاجتماعية، والأكثر انتشارًا وتأثيرًا بين السينما وصناع الأفلام والجمهور.
لسنا ممن يطالبون بتغيير منهجية الكتابة الصحفية، بل بتطويرها وتدعيمها سواء باللغة كأداة تواصل أو بالمصطلحات العلمية التي ترفع من قيمة المقال وعلميته وتحرره من اليومي الاستهلاكي.
هذا الدور نجحت في لعبه بعض الصحف والدوريات المتخصصة عبر أقلام قدمت من الآداب والفنون إلى الإعلام، متحررة من منهجية الكتابة الصحفية التقليدية. ولكن من دون أن تتمكن من صوغ حركة نقدية سينمائية على غرار جماعات نقاد ساهموا في إنشاء أبعاد نظرية وتيارات جديدة في السينما (على سبيل المثال لا الحصر كتاب مجلة دفاتر السينما الفرنسية في الستينيات).
إن التخصصيّة التي نعنيها في التعليم الأكاديمي، من شأنها رفع المقال الصحفي من الإخباري الاستهلاكي إلى التحليلي والاختباري من حيث المضمون، ومن حيث تطوير المعرفة والثقافة البصرية والجمالية أن النقد وسيطًا بين السينما والجمهور وهو فعل ثقافي وتنموي تراكمي في ذائقة الجمهور
هو مسؤولية واجتهاد معرفي ثقافي مثلت الأضلاع بين صنّاع الأفلام والنقاد والجمهور.