تشكل الذاكرة الشفاهية أحد أهم مفاتيح فهم التاريخ والوعي الجمعي للشعوب. فهي ليست مجرد حكايات يتناقلها الرواة أو الأمهات أو الحكواتية في المقاهي، بل طبقة راسخة من الثقافة والذهنيات، تعيد صياغة الماضي على نحو يتلاءم مع الحاضر، وتبث رؤى عن المستقبل. وإذا كان التاريخ الرسمي يتكئ على الوثيقة المكتوبة، فإن التاريخ الشفاهي يضيف إلى الوقائع أبعادًا وجدانية وأساطيرية تجعل الواقع ممتزجًا بالحلم. وهذا التوتر بين الشفاهي والمدوَّن كان دائمًا مصدرًا للثراء، لكنه قد يصبح أحيانًا بابًا للخطر حين تتحول الشفاهة إلى مصدر وحيد للمعرفة، فيغدو العقل الجمعي أسيرًا لخطاب المفوهين والوعاظ الذين يجيدون التأثير أكثر من التحقيق.
غير أن النظرة المتوازنة تقتضي أن نرى في الشفاهة رافدًا للكتابة لا خصمًا لها. الحكايات الشعبية والأساطير والسير لم تكن للتسلية فحسب، بل أرشيف بديل سجّل خبرات الشعوب وآلامها وصورها عن البطولة والخوف والأمل. ومع ندرة التدوين كانت الشفاهة وسيلة لتخزين الذاكرة وتوريثها، حتى غدت جزءًا من هوية المجتمعات. وكثير من هذه الحكايات لم يقتصر على الماضي، بل مارس وظيفة التنبؤ، إذ سجّل وقائع تحققت لاحقًا أو مهّد الطريق لاختراعات علمية كبرى.
يكفي أن نتأمل بعض أحلام الخيال الشعبي لندرك قيمته. فـ"البساط السحري" كان نبوءة بالطيران والسيارات الطائرة. و"طاقية الإخفاء" صارت فكرة قابلة للتطبيق عبر أبحاث النانو وعلوم الميتا-ماتريال. و"افتح يا سمسم" تجسدت في الأوامر الصوتية التي تشغّل الهواتف والأجهزة. والمرآة السحرية التي تكشف الغائب وجدت صداها في تقنيات الرؤية عبر الجدران. أما الاستمطار الصناعي فقد وُلد في الحكايات قبل أن يصبح مشروعًا علميًا واقعيًا في الإمارات والسعودية والغرب.
هذه الأمثلة تؤكد أن الخيال الشعبي لم يكن هروبًا من الواقع، بل استباقًا له. ولم يقتصر أثره في العصر الحديث، بل نجد جذوره في التاريخ القديم ذاته. فالمرايا الحارقة التي نسبها القدماء إلى أرشميدس ارتبطت بمنارة الإسكندرية وأساطيرها. وقد ناقشها إقليدس وهيرون وبطليموس، ثم طورها العرب من خلال الكندي وقسطا بن لوقا وابن الهيثم، قبل أن تصل إلى أوروبا عبر الترجمة. وفي السير الشعبية مثل سيرة الظاهر بيبرس، تجلت المرايا كأدوات للمراقبة والحماية، مما يبرهن على تداخل الخيال العلمي مع الذاكرة الشعبية.
وفي زمن الحروب الصليبية وما رافقها من صدمات، نسج الخيال الشعبي مرايا دفاعية تحمي الحرمين، وتحرق السفن الغازية. وسُجلت هذه الصور في فنون الأداء مثل خيال الظل، حيث تحولت الحكاية إلى سلاح رمزي يداوي جراح الجماعة، ويعيد بناء الثقة. وهكذا نكتشف أن الذاكرة الشفاهية لم تكتفِ بالتوثيق، بل أعادت صياغة الصدمة في صورة أسطورة تحفظ الأمل وتثبت الهوية.
وما يلفت الانتباه أن هذه الصور لم تبقَ حبيسة الشرق، بل انتقلت إلى الغرب، كما نقرأ عند يوليوس قيصر وروجر بيكون اللذين أعادا إنتاج الأسطورة الشرقية في قوالب جديدة. وهذا دليل على أن البحر المتوسط كان فضاءً للتلاقي وتبادل الذاكرة لا حاجزًا بين الشعوب، وأن الخيال الشعبي كان جسرًا للتواصل الثقافي والعلمي قبل أن يصبح التاريخ المدون هو المرجع الأول.
تتضح هنا الطاقة الاستثنائية للذاكرة الشفاهية في فهم التاريخ. فهي تحفظ ما غاب عن الوثائق، وتضيف إلى الحقائق بعدًا رمزيًا، وتكشف الذهنيات وأنماط التفكير. بل إنها أحيانًا تمثل بوابة للمستقبل، إذ ولدت منها اختراعات كبرى غيرت وجه العالم. والنظر إليها باعتبارها مجرد تسلية أو خيال عابر هو تقليل من شأنها، فهي مختبر أولى للأفكار، ومسرح لمخاوف الشعوب وآمالها. وإذا كان العلم يلبي حاجات الواقع، فإن الخيال هو الذي يوسع هذه الحاجات، ويدفع العلم إلى آفاق أبعد.
من هنا ندرك أن العلاقة بين العلم والخيال علاقة تكامل لا تناقض. فالذاكرة الشفاهية، بما تحمله من صور وأحلام، رافد من روافد التاريخ والعلم معًا. وإعادة قراءتها بعيون الباحث اليوم تمكّننا من أن نفهم كيف استوعبت الشعوب ماضيها وإعادة صياغته، وكيف زرعت بذور مستقبلها في تربة الحكاية والأسطورة. وفي زمن يبدو فيه العقل الصارم هو الأداة الوحيدة للفهم، تذكّرنا الشفاهة أن التاريخ أيضًا يحتاج إلى خيال، وأن ما نعيشه اليوم كان يومًا ما مجرد حكاية على لسان راوٍ مجهول، وأن الغد نفسه ربما يُصاغ الآن في ذاكرة شفاهية لم تُدوَّن بعد.