القهوة على النار، تخفق جَنَبَاتِها، أعددتها بتأنٍ مثلما أفعل عادة؛ أضيف كل مكونٍ بحب وتلذذ، أراقبها تقترب من الغليان، وأم كلثوم تُغنى:
"الصبر ده داا مش ب إيديا... الصبر ده داا مش ب إيديا"
كأن القهوة هي من اختارت هذا المقطع! تُنبهني للتوقيت قبل الفوران، وأن الصبر على النار ليس بأيديها. مهمها أعددتها بحب، هناك لحظة ستفور فيها إن لم أتدخل، حينها سيفسد كل شيء دُفعة واحدة!
"الحب مسألة تتعلق بالتوقيت" يقول المخرج الصيني الكبير وونج كار واي.
هل لاحظت مثلي أن لا شيء موقوت كالمشاعر الإنسانية! تبق دائمًا قابلة للإنفجار، للفوران كالقهوة، يحدث فيفسد كل جميل، ويبدد أي مجهود بُذل ويلغي الترتيبات المؤجلة! فنحن نتعرض لخيبات هائلة، نتلق ردود أفعال مخيبة من البشر حولنا على الدوام، اللغز في التوقيت، فالمشاعر لها وقت محدد، إذا لم نسمع لها، ندرك وقت فورانها، ستفاجئنا بتغير مريع! لكننا ننخدع بالبريق دائمًا، نأمن للزمن، نظنّ أن الباب المنفتح على مصراعيه سيبق هكذا دائمًا، مُرحِّبًا، كحضنٍ لحبيب خيالىّ، لا يمِل ولا يكِل!
يكمن الألم في هذا الخداع الذي نمارسه على أنفسنا، عن جهلٍ بخطورة التوقيت!
لماذا نعيش حياتنا متأخرين؟
هل لأن مشاعر الندم أقوى بكثير من مشاعر الامتنان والحب والعطاء، فنصل لحقيقة الاشياء متأخرًا حينما تكون لا أهمية لها على الاطلاق! أم أن الإنسان يعاني مع حاضرٍ يمض بسرعة أكبر من قدرته على الاستيعاب، فنصبح عرضة للخطأ بشكل دائم، نتعامل مع الأشياء للمرة أولى، كممثل على المسرح، يرتجل دون نصٍ أو مساعدة، حياة واحدة نعيشها بشكل مباشر لمرة أولى!
فالإنسان يحارب ضد "أقوى المحاربين هما الوقت والصبر" كما يقول ليو تولستوي
وهنا يجب أن نتسائل، كيف نشعر بالوقت؟
نحن لا نراه، ولا نلمسه، ولا نسمع له صوتًا، يبدو الأمر كلغزٍ أليس كذلك!؟ نعم لغز حيّر الفلاسفة والمفكرين، فنحن لا نستطيع إدراك الوقت بحواسنا. "الوقت وهم" يقول آينشتاين.
فقط ندرك الوقت عبر إدراك التغيرات التي يحدثها، أي أننا لن نجد الوقت إذا توقف التغيير. تفهمنا لكل تغير ولو طفيف يحدث حولنا، يساعدنا على إدراك التوقيت، وبالتالي نتفهم مشاعر الآخر في الوقت المناسب.
التوقيت والنهايات المؤلمة!
"النهاية دائمًا قاسية ومحزنة ولا جواب أو تفسير لها لأنها دائمًا تأتى قبل موعدها" سنان أنطون، رواية "يا مريم"
إنه لشىء مرعب ألا ينتبه الإنسان، أن يفلت من يده أشياء ثمينة بتعالٍ طفولى، أن يرفض الواقع دون سبب منطقى لرفضه سوى المماطلة مع الزمن! هذا العناد الطفولى مع التوقيت، يقف حائلا عن التحرك، يغذى الوهم الذى يشل أفكارنا، يمنعنا من قبلة الوداع على جبين من نحب، ومن الاعتراف لمن أحببنا اننا كذلك. سيرغمنا على الاستمرار فيما نفعله ولا نريده، سيقودنا لفعل الأشياء عينها دون تغير، فلا نرى الوقت المناسب أملا في وقتٍ أكثر مناسبة!
متى سنتبه للتوقيت الذى بطبيعة الحال يحدد كل شىء فى هذه الدنيا؟ متى سنعيش مشاعر الحب والامتنان والعطاء فى وقتها قبل أن نعيشها ماضيا!؟ متى سينكسر ذلك الغرور اللحظيّ الذى يتحكم فى قرارات حاضرنا، ونتحرر حقا لفعل ما يكبلنا ونتكابر عليه؟
رؤية الجمال موقوتة!
الورود تفسد ويموت جمالها الزاهي حتى وإن ظلت فى جذورها تستمد غذائها بشكل طبيعى، الجمال موقوت، يزول بسرعة ويبقى أثره طويلا في نفوسنا، أحيانًا يقع الإنسان في شرك التأجيل للحظة يصبح فيها سعيدًا بالكامل، متحررًا من كل ضغوطه، ياله من خداع، فتلك اللحظة المثالية محض وهم كبير. كل ما نستطيع فعله أن نستمتع طوال طريقنا بكل شيء جميل يمر عبر عيننا، لأننا قد نسير في نفس الطريق مرّة أخرى ولن نجد ذلك الجمال، فقط سنشعر بأثره إذا عبر دواخلنا في المرة الأولى ورأيناه جيدًا.
"الصبر ده داا مش ب إيديا... الصبر ده داا مش ب إيديا"
تعيد أم كلثوم.
الفوران آتٍ، سيُفسد الطعم، يُخمد النار، ويقضي على الفُرص،
حولنا كل العلامات تشير أن كل شيء موقوت، قابل للإنفجار، كل شيء له ساعته، وتوقيته الحرج، الذى لو حان موعده، ستأخذ الأمور منحنًا مغايرًا، من القمة للقاع، وسيفسد كل شىء.
"الوقت لعبة يلعبها الأطفال بشكل جميل" هيراقليطس (الفيلسوف الإغريقي)
ينجح الإنسان في كثير من الأشياء، ويظل الخاسر الأكبر في لعبة التوقيت، تلك التى لا نفهمها.
لو أننا فقط نعي لخطورة الوقت ودقته، سرعته، جنونه، وفداحة ما يفعله بنا! ربما لن نؤجل قراراتنا، ربما لن نستهلك أنفسنا فى تفكير عقيمٍ طويل، نقدم أكثر على الحياة، نجرّبها، ونستغل الفرص، نلحق المشاعر قبل أن تبرد، ويبددها الوقت وضغوط الحياة، قبل الفوران الذى يعقبه موت طويل مؤلم.
ها هى القهوة قد فارت، فسد الوش، وشعلة النار أسفل منها قد انطفت!
وأم كلثوم تصدح:
"والصبر ده داا مش ب إيديا.. الصبر ده داا مش ب إيديا والشوق واخدنى فى بحر هواك"