يمثل الفيلم الكوبي الطويل"هافانا الحلوة" للمخرج فيرناندو بيريز، أحد نماذج السينما التسجيلية الإبداعية المعاصرة. يسرد الفيلم سيرة يوم واحد من حياة ثلاثة عشر شخصية إنسانية مختلفة الجنس والعمر والمهنة مستعينا بوسائل بصرية وسمعية طبيعية( فقط مؤثرات وموسيقى بدون أي حوار أو تعليق صوتي)، مع كتابة أسم وعمر كل شخصية عند أول ظهور لها في الفيلم و كتابة في نهاية الفيلم توضح الوضع الخاص بكل شخصية. يتتبع المخرج التفاصيل اليومية لمسيرة كل من شخوص فيلمه بدءا من ساعات الصباح الأولى مرورا بالانشغالات اليومية وممارسة الأعمال ذات العلاقة بالمهنة وصولا إلى ساعات الليل التي نكتشف من خلالها الجانب الآخر من كل شخصية، فعامل سكة الحديد مثلا، يتكشف عن عازف موسيقي يعزف مع إحدى الفرق في الليل، والأمر نفسه يحدث مع العديد من شخصيات الفيلم الرئيسية التي نجح المخرج في تقديمها كشخصيات غنية مبدعة متعددة الأبعاد. استفاد المخرج من المنهج الروائي لتحقيق فيلمه التسجيلي هذا، خاصة، من حيث اللجوء إلى ترتيب وقائع سير الأحداث من أجل التصوير لكن بدون الإخلال بحقيقة أو مصداقية الحدث، أي أن شخوص الفيلم كانوا يمارسون أفعالهم اليومية العادية، عن طريق إعادة تمثيل، أو بالأحرى، إعادة عيش حياتهم اليومية، ولكن، بالترتيب مع المخرج كي يتمكن من تصويرهم.
أشخاص الفيلم كما يقدمهم المخرج فقراء غير أنهم فقراء مبدعون، وهم بمجموعهم يعكسون صورة حية وصادقة عن وضع كوبا كدولة فقيرة و محاصرة اقتصاديا، ولكونها محاصرة اقتصاديا، فهي مضطرة للاعتماد على نفسها عن طريق ابتكار حلول جديدة ذاتية لمشاكل العيش اليومية، فهي بالتالي دولة فقيرة إنما دولة مبدعة.
لا يقدم المخرج كل شخصية على حدة، بل بالتداخل حيث ينتقل بلا مقدمات من شخصية لأخرى ومن لقطة لأخرى بدون تواصل سردي، و بهذه الطريقة يتمكن بناء الفيلم من إبقاء المتفرج، الذي جعله المخرج يهتم ويتعاطف مع كل شخصية، في حالة من الترقب لما سيحصل لاحقا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، يساعده هذا على أن يضيف إلى سيرة الشخصيات سيرة المدينة بحد ذاتها بكافة مجالاتها وكافة أجوائها. يعتمد فيلم" هافانا الحلوة " على تفتيت الحدث وعرضه على مراحل بواسطة التنقل الحر، ولكن غير العشوائي، بين اللقطات والمشاهد والشخصيات، فيلم" سكان هافانا" يعرف المشاهدين على شخصيات محددة إنما يمكن من خلالها الوصول إلى نوع من التعميم. ثمة جانب مهم أيضا في تجربة تعامل الفيلم مع شخصياته، فهو ينجح، وإن بطريقة غير مباشرة، في سرد قصص تتعلق بشخصياته، وهو يسرد هذه القصص بواسطة وقائع عادية من الحياة اليومية ليجعل من هذه الوقائع العادية مثيرة للفضول ويضفي على الشخصيات أهمية خاصة.
من الإنجازات التي تحققت في الفيلم أيضا نجاح المخرج في إضفاء معنى عميق لأحداث أو تصرفات قد تبدو ت غير مهمة للوهلة الأولى، من نماذج ذلك، على سبيل المثال، متابعة المخرج لأحد شخصيات الفيلم وهو شاب نراه وهو يقود دراجته من شارع إلى شارع قاطعا مسافة طويلة، معلقا في مقدمة مقودها حذاءً نسائيا، سيسلمه فيما بعد إلى رجل في خريف عمره يعمل مصلحا للأحذية، ثم نراه يعود في وقت لاحقا لاستلام الحذاء لنراقب في المشاهد الأخيرة من الفيلم، الشاب وهو يقدم الحذاء بكل رقة لزوجته لترتديه كي يذهبا معا لقضاء سهرة جميلة، ويمكن أن نضيف أيضا مشهد الزوج الأرمل وهو يشتري باقة من الزهور من بائعة في الطريق، وبعد زمن طويل نراه في لقطات أخرى يقود دراجته في الشوارع، أخيرا نراه وهو يضع باقة الزهور فوق قبر زوجته، هكذا تكتسب رحلته في شوارع المدينة بواسطة الدراجة الهوائية بعدا دلاليا يعكس عاطفة نبيلة تجاه زوجة رحلت عن الدنيا.
وصف هذا الفيلم الذي حاز على خمسة عشر جائزة دولية، من قبل العديد من المعلقين بالقصيدة السينمائية.