يحاول الفيلم السوريّ «نصف ملغ نيكوتين» للمخرج محمّد عبدالعزيز، مقاربة بعض الموضوعات التي تُعدّ خطوطاً حمراء، تتقاطع في خطوط دراميّة لتعرض جوانب من سيَر الشخصيّات المقدَّمة. يستهلّ الفيلم بمشهد فتاة صغيرة تبيع البالونات، وصبيّ صغير يسألها عن سعر البالونة، يعمل بدوره في تلميع الأحذية بالقرب من جدار المتحف الوطنيّ في دمشق. ثمّ تتصاعد وتيرة العمل، الذي يقدّم قصّة حبّ تنشأ بين كمال .
وهو شابّ مسيحيّ، وأروى، وهي فتاة مسلمة، ابنة إمام الجامع الكفيف ، تكون منقّبة طيلة مدّة الفيلم، يعشقها الشاب بعد أن تصطنع أعذاراً لتلفت انتباهه، ولا تكشف له عن وجهها، إلاّ بشروطها الخاصّة. تخبر والدها بقصّتها مع الشابّ، يترك لها والدها حرّيّة الرأي والقرار والاختيار، وفي الوقت نفسه يتقرّب الشابّ من الشيخ، يذهب ويجيء معه إلى الجامع، يمسك بيده، يقوده، يستفيد من عبَره وحكمته، يتناقش معه في بعض الأمور، يستقي من خبرته، يتفاجأ حين يخبره الشيخ بمعرفته بقصّة الحبّ التي نشأت بينه وبين ابنته، يصارحه الشابّ أيضاً، يفتح له قلبه، ثمّ يسأله عدّة أسئلة عن ماضيه، حيث سمع بأنّه كان فنّاناً بارعاً، وأنّه هو مَن أعمى نفسه. يحكي الشيخ قصّته بالدقّة والتفصيل للشابّ، يبوح له بفلسفته في الحياة، يسرد له حكايته الغريبة التي أعمى بسببها نفسه، يخبره بأنّه يفضّل البصيرة على البصر، وأنّه يستحيل الاستدلال إلى الله إلاّ من خلال القلب والعقل معاً.
بموازاة قصّة الشيخ وابنته مع الشابّ المسيحيّ، تحضر قصص أخرى، منها قصّة السائق، الذي يحاول الانتحار طيلة عقدٍ كامل، لكنّه يجبن عن تنفيذه، لا يعدم في كلّ مرّة اختلاق عذر لتأجيله، يروي أثناء ذلك أسباب إقدامه على الانتحار، حيث كان يعمل سائقاً على خطّ بيروت ـ الشام، وكانت له ابنة وحيدة، ولأسباب مرضيّة استعان بالأطبّاء، أجرى عدّة اختبارات، اكتشف فيها أنّه غير قادر على الإنجاب أبداً، اكتشف أنّ ابنته ليست من صلبه، فتجتاحه الوساوس، يسعى إلى الانتقام من زوجته وابنته المزعومة، يحاول قتل الطفلة لينتقم من أمّها، ويحرق قلبها أسفاً وحسرة عليها، لكنّه يفشل في ذلك، يخرج من سجن قاسٍ إلى سجن أكثر قسوة، تسير طليقته في طريق الانحراف، تبدو متحسّرة متأسّفة دوماً على «المصلحة» في الأيّام السالفة، تظهر بهيئة الساعية إلى إرواء شبقها، تحيط نفسها بالتفّاح، لا سيّما الأحمر منه، تملأ بَحرة بيتها به، تقضم التفّاح بطريقة مُغوية، كأنّها تقضم فريستها. الصبيّ الذي تستعين به، كأنّها تغويه وتغوي نفسها معه، هو ذاك الصغير الذي يعمل في تلميع الأحذية، يجول الشوارع مع فرح، التي يعمل والدها فنّيّاً في دار للسينما، تناديه المرأة إلى بيتها، تراوده عن نفسه، تعطيه بعض النقود ليجلب لها بعض الأغراض، ثمّ ليشتري لنفسه ثياباً جديدة، ويزورها مساء، تعده بأنّ تعرّفه إلى عوالم لم يتسنَّ له اكتشافها. وفي خطوة جريئة، بالنسبة إلى السينما السوريّة، تبدو معه في السرير، وهما ينفخان السجائر، التي كان الولد الصغير يحرص على تدخينها، كي تكتمل رجولته. ويكون الولد نفسه من المهاجرين من المحافظات الشماليّة إلى العاصمة، يبدو نموذجاً لكثير من الأطفال الذين يتركون الدراسة، يقعون فرائس في أيدي الآخرين الذين يتمادون في ابتزازهم بشتّى السبل، وتكون نهايتهم مأساويّة، لأنّ طموحاتهم الكبيرة لا تجد متنفّساً لتتحقّق في الواقع، الذي يضيق بهم، فيلفظهم إلى لجّة الموت الذي يتخطّفهم بطريقة أو بأخرى.