هذه رواية مُنهِكة بكلّ ما تعنيه الكلمة، بطلها بخيت، "متعب، أرهقته حياته جدًّا، كلّما ظنّ نفسه حرًّا زادت أغلاله"، وهذا بخيت، درويش من الدّراويش، تلاحقه لعنة العبوديّة أينما حلّ، وينهش الحبّ عظامه، ويكبّله سواده، سواد اللون الذي يفصل بينه وبين الكثير، وسواد القلب الذي يمنحه ما أراد، وهو سوادٌ اختلط بدمٍ عشِقَ رؤيته ساعة الثّأر.
يرسم حمّور زيادة الشّخصيّات بدقّة، ويشكّلها بذكاءٍ جعلَ لها في ذهني صورةً قويّةً واضحة. وفي نصّ الرواية كلّ الشّخصيّات تتّحد وتنفصل، تندمج وتفترق، وفقًا للزّمان أو المكان، لكن جميعها عرفَ الألمَ خير معرفة.. يظهر بجلاءٍ أنّ الخلفيّة التّاريخيّة والجّغرافيّة لهذه الرّواية كلّفت الكاتب شيئًا من الاستقصاء والبحث، فهي تتحدّث عن فترة الثّورة المهديّة، وما رافقها أو سبقها أو لحقها من حكمٍ للتّرك وغزوات وانقلابات ومداهمات عدّة.. لكنّها لم تُكتَب بصورة سرد تاريخيّ بل بسرد إنسانيّ عاطفيّ يعبّر عن واقع أشخاص عاصروا كلّ ذلك، وأظهروا مواقفهم ورؤيتهم وتجاربهم المريرة التي عاشوها في السّجون تحت وطأة العبوديّة والاحتلال، وتخبُّط النّفوس ما بين الوفاء بالعهد، والإخلاص للإيمان والرّسالة، واللحاق بالمحبوب واستحقاقه.
شتتني قليلًا سير الأحداث الذي كان يتنقّل بين الماضي والحاضر والمستقبل، ويبدأ حواراتٍ بنهاية حوارات أخرى، لكنّني لا أتخيّل لرواية كهذه إلّا أن تُكتب بتلك الطريقة، طريقة التّشابك والتنقّل والالتواء. "يحبّ لغتها العربيّة. تتكلّم السّودانيّة بطلاقة تشوبها لكنة طفوليّة. حرف جيمها معطّش بلطفِ آسر، وكلماتها سريعة تنطقها بخفّة كأنما تتكفّأ". كما أحبّ بخيت عربيّة مريسيلة خصوصًا، أحببتُ أنا عربيّة "شوق الدّرويش" عمومًا، وأعجبتني عذوبتها التي أضفت نسمة خفيفة على حرارة الأحداث ومرارتها، وأبرزت جماليّة النّصّ، وهي مع عذوبتها لغة قويّة حادّة تؤثّر في القارئ وتزيد من اندماجه مع الأحداث، فيشعر بنفسه لوهلةٍ يشرب مع البخيت شرابه، ويهذي مع هذيان الحسن، ويتوجّع بأوجاع ثيودورا الجسديّة والنفسيّة، ويغوص في نصّ يسحبه من أريكة مريحة أو كرسيّ مكتبيّ إلى مصر أو أرض أمّ درمان.
إنّها لمهارة كبيرة في رأيي أن يجمع كاتب في رواية واحدة أحداثًا تاريخيّة فارقة وتفاصيلَ إنسانيّة عدّة، ومواضيعَ شائكة كالحبّ والإيمان والذّكريات، بأسلوب ولغة قويّة. وعلى إثر ذلك، لا أظنّ أنّ هذا سيكون اللقاء الأخير لي بحمّور زيادة ولا بشوق الدّرويش ولا بالكتب الفائزة بجائزة نجيب محفوظ للأدب.
|