التأمُل فيما نعيشه اليوم من واقعٍ أليمٍ وخطير، يثير العديد من التساؤلات. فهل من المقبول أن يجتمع أفراد العائلة الواحدة في غرفة ويبقوا صامتين بسبب استخدام الأجهزة النقالة التي بين أيديهم والتي لا تنفك النزول عنها! وهل من المعقول أن يستخدم الناس هذه الأجهزة دون تقنين وضوابط وبعشوائية تامة؛ خاصةً من قبل الأطفال والمراهقين؟ بل وهل من المعقول رؤية معظم رؤوس البشر مُطأطأة نحو هذه الأجهزة وفي معظم الأماكن؟ وهل تعددت العوالم وأصبح لكل منّا عالمه الافتراضي الخاص والذي كفاهُ ونأى به عن الآخرين؟ وهل هذا الاستخدام المفتوح والمُطلق أصبح أقرب ما يكون إلى ظاهرة الإدمان الجماعي؟!
الوقت العملة الوحيدة التي يمتلكها الجميع والعاقل من ينفقه بما هو مفيد ونافع، والجاهل من يضيّعه ويجعل الآخرين ينفقونه عنه. لوحظ أن ظهور هذه الأجهزة بين أيدي الناس جميعهم كبيرهم وصغيرهم يؤثرعلى حسن الانتفاع بالوقت، بل هي في كثير من الأحيان تجدها مَلهاة ومضيعة للأوقات خاصةً لمدمني استخدام برامج التواصل الاجتماعي، فما الفائدة المرجوة من معرفة تفاصيل شؤون الآخرين؟! إنهم لصوص الأوقات الجدد الذين أوجدوا الكثير من الآثار والتحديات على الفرد والأسرة.
الآثار السلبية المترتبة على هذه الظاهرة لا تكاد تُخفى على أي عاقل؛ فعلى المستوى الاجتماعي باتت العلاقات الأسرية تتأثر بالسلب كون التواصل بين أفراد العائلة قل وأحيانًا قد يفقد تمامًا، فعند اجتماع العائلة نرى أن كل فرد قد انزوى حاني الرأس في زاوية خاصة به يتابع أمرًا ما في جهازه الخاص دون أن يشعر بما يحدث حوله، ودون أن يتحدث أو حتى يشارك في الحديث العائلي وينتهي اليوم من دون دراية أو وعي بما حدث ودار في الجلسة، وهذا ينتج تفككًا أسريًا مع مرور الوقت.
على المستوى الفردي، فإن كثرة استخدام الاجهزة النقالة يجعل الفرد انطوائيًا وخجولًا، وأحيانًا يصبح بعض الأفراد غريبي الأطوار مائلين إلى التوحد بإرادتهم؛ بسبب إيثارهم الوحدة والعزلة على الاختلاط بالناس، وبعضهم يميل سلوكه إلى العدوانية خاصةً الأطفال والمراهقين، كما أن قدرات الإنسان اللغوية ومهارات التعامل مع الآخرين التي تكتسب من خلال الاختلاط بالآخرين تقل وتتأثر، وفي المحصلة يكون لدينا فردًا قلقًا ومتوترًا وعصبيًا أغلب الأوقات. كذلك فإن الصحة البدنية والنفسية للفرد قد تتأثر سلبيًا؛ إذ أثبتت الدرسات الطبية أن إطالة النظر في الجهاز النقال يؤثر على سلامة البصر خاصًة الاشخاص الذين يقرؤون من هواتفهم النقالة لساعات عديدة؛ إذ يميلون إلى تقريب الأجهزة من أعينهم مما يجبر العين على العمل بشكل مرهق للتركيز على المكتوب في شاشة صغيرة. كما أن هذا الاستخدام المبالغ فيه قد يسبب اضطراب في النوم والمعاناة من الأرق وفقدان التركيز. ناهيك عن آلام الرقبة والمفاصل وأمراض السمنة.
على المستوى الاقتصادي فإدمان الناس وانكبابهم على أجهزتهم يكبدهم نفقات مادية طائلة للاستشفاء من ألام مفاصل الرقبة والظهر وأمراض العيون، وقد يؤثر هذا الإدمان على انتاجية الفرد في العمل والدراسة؛ لأن الأوقات تهدر في متابعة الأخبار التي لا تنتهي والألعاب الالكترونية التي لا تحصى؛ بدلًا من قضاء الوقت في التفكير والإنجاز والإبداع.
لكن لا بد لنا من الإشارة إلى بعض الآثار الإيجابية لهذه التكنولوجيا الرقمية الموجودة في الأجهزة النقالة وأجهزة الحاسوب المحمولة ففي النهاية لا يوجد شر مُطلق كما لا يوجد خير مُطلق، فلا نستطيع إنكار قدرتنا الآن على الوصول للمعلومة بصورة أسهل وأسرع من السابق، وسرعة إنجاز المعاملات، وسهولة تواصل الأفراد اجتماعيًا؛ رغم الشتات الذهني الذي قد نعاني منه من كثرة المواقع والمصادر. كما أن السماح لمن هبّ ودبّ بإضافة أي محتوى يجعل هناك صعوبة في التمييز بين الصحيح والخاطىء، ناهيك عن احتمالية الوقوع في عمليات النصب والاحتيال.
حتمية امتلاك هذه الأجهزة والتعامل معها بات شرٌا لا بد منه؛ فالجهل فيها أصبح يوصف بالأمية الجديدة، إذ انتقلنا من مرحلة التخيير في الاستخدام لمرحلة الاضطرار خاصةً فيما يتعلق بالمعاملات المؤسسية، لكن المطلوب التنظيم والسيطرة. الاستهتار بعدم تنظيم استخدام الأجهزة النقالة، وتقليل الوقت المنفق على متابعة الغث والسمين يضع الأفراد في طريق مليء بالمخاطر. تخصيص ساعات محددة يومياً للاستخدام والتصفح، خصوصًا للأطفال والمراهقين، قد يساعد في التقليل من تلك المخاطر، كما أن انفاق الوقت في تعلم مهارات مفيدة للبدن والفكر يُجبر البعض على تقليل استخدام هذه الأجهزة كمحاولة للوصول إلى نمط حياة صحيٌ نوعًا ما.
هذه الأجهزة باتت لعنة العصر الواقعة على الجميع؛ فنحن في طريق لا نعرف إلى أين يقودنا ولكن مُجبرون على السير فيه. إن السعيد والفائز من أحسن استخدامها، والشقي من بات عبدًا مسلوب الإرادة لها. فلا أبالغ بوصفها غولٌ في جُعبته شر كثير وخير قليل قد اكتسح البشرية ولا يمكن كبح جماحه!