قبل البدء بالكتابة، فكرتُ كثيرًا بشكل المقال الذي أٌنهي به عام 2023، ووجدت أنني أريد أن أكتب ما فكرت به، وأنطلق مما أنا عليه، وأكتب شيئًا أستمتع به بصفتي أخصائية مكتبة، أتساءل؛ هل يمكن أن تتحول المكتبة لمصيدة ثقافية مثلًا؟
يقول الكاتب الفلسطيني حسين البرغوثي: غريب كم يبدو المكان كمصيدة أحيانًا وكم تبدو المصيدة كمتاهة أحيانًا.
جولة سريعة في الأماكن التي يقصدها البشر في إجازتهم الأسبوعية، وأوقات فراغهم، وعطلتهم السنوية، ولحظة هروبهم من ضغط العمل والضغط العائلي، نجد أنّ المكتبة المكان المثالي لتفريغ تلك الشحنات، إلّا أنّ عدد قليل من هؤلاء البشر يقصدون المكتبة ويتوجهون إلى المتاهة. لا شكّ؛ أنّ المكتبة العامة مفردة نادرة في الأردن، ونادرة كذلك في الكثير من المناطق حول العالم، الأمر الذي يجعل من المكتبة أمرًا ثانويًا، وتُقصد في الجولات الإرشادية، وعند إعداد بحث جامعي وإنهاء رسالة الدراسات العليا، في الوقت الذي يمكن فيه استثمار ذلك المكان؛ لركن التأمل وبوابة للعلاج ومصيدة لكلّ ما نفكر فيه ويهرب منّا، ونطبق ما أرشدنا إليه الطبيب يالوم إرفين في علاج شوبنهاور، وتأمل الحياة من خلال خوضها مع الآخرين والمشاركة فيها.
وانطلاقًا مما أسعى إليه في الحياة وتسعى إليه المؤسسة من رسالة مجتمعية، قررتُ طرح أسئلة على الرواد، ومحاورتهم عن المكان، عن السبب الذي يدفعهم لمكتبة شومان واختيار المقعد الخشبيّ عوضًا عن أريكة المقهى!
ونتيجة لذلك؛ إنّ الشعور بالإنجاز مع الجماعة يجعل دافع العمل مشحونًا لوقت أطول، وأنّ تأمل إنجاز الآخرين من خلال الكتب يجعل المرء أكثر رغبة في تخليده مستقبلًا، ولأنّ محيط المكتبة ملاذ، تجد أنّ الذي يخاف من العزلة يقصد المكتبة، ليستأنس بالكتب!
الإنسان لا يستطيع الفرار من المشاعر والأفكار لكنه إن ودّ ذلك؛ عليه التوجه للمكتبة، فالمكتبة تستطيع إرشادنا للإدراك، من خلال تعدد الهويات، لكلّ هوية عنوان ولكلّ عنوان أثر. إنّ عملية التأمل بالبشر، بالتصرفات الفطرية، والحركات العشوائية، إدراك إلى أنّ الكون كلّه يجتمع في حيّز ضيق، وأنّ الإنسان إن منح نفسه الفراغ يتعلم درسًا مفيدًا في كلّ مرة، وأنّ الكف عن التخبُّط جراء الحياة السريعة، لا يكون إلا بتأمل المكان الذي يضم حيوات آلاف وآلاف البشر من قبل.
كلّ رف في المكتبة يسع آلاف الشخصيات وعشرات الحيوات، كلّ ممر تجد فيه حكمة وقانون ومعادلة رياضية ولوحة فنية، إن كنت مهندسًا ستجد آلية لرسم المخطط الذي تسعى إنجازه، إن كنت طبيبًا ستجد مقعد يرشدك لعلة البشر في الغد، إن كنت معلم سترى كيف يتلهف الطلاب للحرية وإدراك كلّ ما هو جديد، وإن كنت كاتبًا ستجد كلّ شخصيات حكايتك ماثلة أمامك نتيجة تنوع البشر.
في المكتبة يجلس قربك عجوز عمره ضعف عمرك، يرمي لك حكمة حياتية ويرحل، تدرك من خلالها أنّ المرء كلّما ازداد عمره مالّ للصمت أكثر، في الحيز الضيق بين الكتب تجد من يقرأ الغلاف ويحلل كلمة المترجم ويحاور الكاتب ويؤنبه على العنوان، قد تجد من يحبّ الدراسة في محيط يدفعك للدراسة رغمًا عنك.
وانطلاقًا من كتاب التأملات لماركوس أوريليوس؛ أنّ الحياة السعيدة تحتاج لأقل القليل، فهي بداخلك وتكمن في طريقة تفكيرك. فالمكتبة المكان المثالي لتنتقل وتفكر، تفكر في كلّ شيء أهمّك وأشغل عقلك، تخطط إليه وتصبو، يزعجك أمره ويحزنك، المكتبة قادرة على سلب كلّ تلك الشحنات السيئة. هل يمكن أن نقول أنّ هناك سحر في المكان؟ نعم. سحر المكان مصيدة للخلاص!
المكتبة عالم؛ من لا يسافر فيها لا يرى سوى صفحة حياته المملة. قد تكون المكتبة مصيدة للحزن، مصيدة للأمل، مصيدة للفكرة، ومصيدة للنجاح ومصيدة للحياة ومصيدة للتعثر ومصيدة للغد ومصيدة في قمع الأمس ومصيدة في المضيّ ومصيدة لكتابة هذا المقال!
الآن أخبروني هل يمكن أن تكون المكتبة مصيدة؟