تقول بعض الآراء أن الأشخاص المقربين من الأصدقاء والعائلة، هم أول أعداء الكتابة. والسبب أن الوقت والطاقة اللذين يستهلكهما الكاتب في هذه العلاقات كبير جدًا، مما يجعله يعمل بالحد الأدنى منهما.
يذهب أصحاب الآراء المؤيدة لهذا الطرح لاعتبار الأم فردًا غير صالح لأن يكون كاتبًا.
في الحقيقة يمكن تفنيد هذه الآراء والرد على إشكالية الوقت والطاقة ببساطة، ذلك أن الوقت والطاقة شيء نسبي يختلف بين شخص وآخر، فهناك الذي يملك كل طاقته ووقته لنفسه فقط لكنه لا يقوم بشيء يذكر. وهناك الذي يضطر أن يقسّم وقته وطاقته على الكثير من المسؤوليات والأنشطة، ونجد في عمله نتائج مبهرة أحياناً. وإلّا فكيف استطاع الأطباء مثلاً دخول مجال الأدب بقوة رغم ما نعرفه عنهم من انشغال دائم؟
الأمهات الكاتبات يعرفن جيداً أن بعض ما يكتبن يخطر على بالهن في أوقات الأعمال المنزلية، أو في أوقات متأخرة من الليل، بينما يقمن على راحة أطفالهن، أو في ساعات الصباح الباكر.
ما يهمني هنا هو ما تحدّث نفسها به الأم الكاتبة، من شك حول صلاحية اعتبارها كاتبة.
شكوك الأم الكاتبة
إن مثل هذه الشكوك تكون حاضرة بسبب المحيط والمجتمع، أو بسبب السلوكيات التي يقوم بها بعض الكتّاب الآخرين، أو من خلال نهج التشكيك بالموهبة والقدرة الذي يتّبعه الكثيرون من غير المتخصصين أو حتى المتخصصين، خاصةً مع فتح باب إبداء الرأي على مصراعيه على مواقع التواصل الاجتماعي، دون استناد إلى دراسات أو خبرات حقيقية في الأحكام التي تلقى.
فمن المحترفين من يعيب على الآخرين رغبتهم في دخول عالم الكتابة والتمكن من أدواتها بالتعلّم من خلال الورش الكتابية، متناسين أن الكتابة حق إذا ما فكرنا في حرية التعبير عن الرأي، والتعلّم حق أيضاً، وأن ما يحدّد الموهبة هو كل عمل على حدة من خلال الأثر الذي يتركه، كم كان ذلك العمل ممعناً في الخبرة ولا أقصد خبرة العمر (مع أنها مهمة لجوانب معينة) بل خبرة المشاعر وردّات الفعل والنتيجة من التجربة.
من زاوية أخرى، يشيع عند الغالبية ربط الإنجاز بالمقابل المادي، وهذه الفكرة بالذات هي ما يجعل الأمهات الكاتبات يشعرن بعدم وجود الجدوى من الكتابة، بل والتردد قبل إخبار أي شخص يسألهن عمّا يفعلن بجانب الاهتمام بالمنزل والأطفال بأنهن يمارسن الكتابة، أقول ذلك لأني كنت واحدة منهن حتى وقت قريب.
الكتابة والمردود المادي
نشر الأعمال أو الحصول على دخل من الكتابة هو ما يجعلها معترفا بها كهوية يقدم بها الشخص نفسه، ولكن ذلك غير صحيح، فرغم أن البعض يحققون من الكتابة دخلاً عالياً إلّا أنها للكثيرين مهنة لا يمكن الاعتماد عليها لتأمين متطلبات العيش.
كما أن الكثير من الكتاب لا ينشرون ما يريدون، وما يعتبر أفضل الأعمال التي يكتبونها، بل ما توافق عليه دور النشر، والتي كثيراً ما تنحكم لمعايير تجارية ربحية. تأكدوا أن هناك الكثير الكثير من الأعمال المبهرة التي تظل حبيسة الأجهزة والأدراج، ويمكنكم هنا أن تسألوا الكتّاب الذين توجهوا للنشر الذاتي أو لإنشاء دور النشر الخاصة بهم عن دافع اسمه "حرية النشر."
ربما من البديهي القول إن دور الأم لا يمكن فصله عن الإنجاز، ومن المجحف أن نربطه بالعائد المادي، لكن لا نستطيع إنكار تأثير التيارات التي شككت بأهمية دور الأم، وهنا أشير إلى أنّ الذين يدعون إلى عمل المرأة، والذين يدعون إلى عدم عملها هم شركاء في هذا التشكيك والتقليل من تقدير المرأة الأم لما تقدمه.
الطرف الأول ربط نجاحها بالمقابل المادي، والطرف الثاني ربط نجاحها بتخليها عن أحلامها وانقيادها.
بشكل أو بآخر، كنا وما زلنا نجد نتائج الجدل تدفع نحو هذين الاتجاهين.
أريد أن نعود إلى أصحاب رأي "الوقت والطاقة" وماذا وعم تشعر به الأم الحقيقية؟ ماذا عن تجاربها مع عائلتها؟ ماذا عن تجربتها الشخصية في الحياة؟ ماذا عن وصف فرحها الحقيقي في موقف معين؟ ماذا عن بكائها؟
من يخبرنا بكل ذلك إذا لم تكن أماً لديها هواية أو موهبة الكتابة؟ من يخبرنا بالحقيقة؟ هل يخبرنا الذين لم يخوضوا تجارب حقيقية؟ أم الذين يطلبون منك أن تكون وحيداً لتكتب؟
لا يخفى على القراء أن الكاتب أحياناً يوفّق ويكتب كما لو أنه عاش الموقف، ولا يخفى عليهم أيضاً كمية التكلف والمثالية التي يقحمها البعض فيما يكتبون، ولا يخفى أيضاً الجهد الكبير في البحث.
في الواقع القراء يريدون أن تجتهد في البحث دون أن تتبختر سعيداً بأبحاثك في الرواية أو القصة، لا أحد يريد منك وصف كآبة ما بعد الولادة في رواية كما قرأتها في المقالات العلمية، بل يريدون أن يقرأوا شعور الأم، وهذا واحد من الأمثلة التي لا حصر لها التي يمكن لأم أن ترويه دون تكلّف أو حتى بحث.
أريدُ التذكير بأن كثيراً من كاتبات الأطفال توجهن للكتابة للطفل بسبب حاجتهن لكتب لها طابع خاص لأطفالهن.
أخيراً أودّ أن يصبّ كل ما قدمته في الرأي القائل؛ لتسمى الأم كاتبة يجب أن يكون لديها ما تريد إخباره، فتحاول ذلك عبر الاستمرار في الكتابة، فذلك يصقل الموهبة، ويجعلها تطلّ على القراء أياً كان عددهم (زادوا أم قلّوا) بنصوص جيدة أو حتى رائعة.
الكتابة في الأساس هي رغبة في إيصال رسالة أو شعور أو فكرة أو قصة، وما نفعله لتنفيذ هذه الرغبة هو ما يحدد هويتنا ككتّاب.
بعض الكتّاب مثلاً يصبحون كتابا رائعين للكبار، لكنهم لا يستطيعون الكتابة للطفل، والعكس صحيح فبعض كتّاب الأطفال لا يمكنهم صياغة نص سليم للكبار، بينما يقدمون للأطفال نصوصاً مبهرة.
وعليه فإنه يمكن تعلّم الكتابة والإبداع فيها بالاشتغال على التوجه المرغوب، وذلك بالقراءة والممارسة، وهذا هو الإنجاز في عالم الكتابة، وما تبقى من نتائج منتهية بالنشر أو التحصيل المادي يحكمها الكثير من الظروف الخارجية ولا يمكن أن ترتبط الهوية بالعائدات، والكتابة هوية.