مثلّ السباق الرمضاني للعام 2023، تنوعاً وثراءً بالمحتوى والمضامين، والتي تجسد الوقائع التي بدت تتأثر بها المجتمعات العربية، سواءً على صعيد السياسة أو السلوكيات والظواهر الاجتماعية المُستحدثة.
ظواهر مثل عمل الأطفال، والجرائم التي تكون بداعي السطوة والسيطرة، والثقافات الغيبية التي تؤمن بالسحر والشعوذة، تمثلها مسلسلات ذات حبكة درامية متينة إلى حد ما، من طراز العربجي وزقاق الجن ومربى العز، في حين تناقش سلسلة باب الحارة في جزئها الثالث عشر أثر اللجوء على الحياة الاجتماعية، والتي ربما ترفضُ أحيانا الغرباء عنها، لتعالج الحبكة الدرامية والقصصية، التفاعلات النفسية والاجتماعية الناجمة عن هذه الردات من الفعل.
مثلاً، قدم مسلسل مربى العز، من خلال الأطفال الثلاثة: مناع وزين وفارس، تشخيصاً لظاهرتي الخطف، وأطفال الشوارع، والتي تعانيها المجتمعات العربية بشكلٍ أو بأخر، وإن بألوان مختلفة، لينتقل هذا المسلسل عبر الحالة النفسية التي شكلها لدى الجمهور، من إطاره السوري إلى إطاره العربي المحض، فهو يناقش بذلك قضية تعانيها الأحياء في بعض المدن العربية، وإن بشكل متباين فيما بينها، كثمن للتحول المدني والحضري الذي تعيشه المنطقة العربية منذ القرن العشرين، وكتداعيات للتفسخ القيمي والأخلاقي في تلك المجتمعات، مبعوثة بالفقر والأمية والجهل.
تشير دراسة جزائرية، إلى أن ظاهرة أطفال الشوارع، من الظواهر المشتركة بين المجتمعات النامية، والصناعية على حدٍ سواء، وتشير التقديرات الإحصائية وفق الدراسة الجزائرية، إلى أن أطفال الشوارع شكلوا خلال العام 1995م، أكثر من 100 مليون طفل حول العالم، وتعاني الظاهرة من شُح الإحصاءات، كونها من المواضيع ذات الحساسية العالية، وتعكس بيئات يصعب على الباحثين دخولها، بدون هامش مخاطرة."1"
تعكس هذه الأرقام، أهمية المعالجة الدرامية التي قدمها مربى العز، إذ لفت أنظار الرأي العام إزاء الظاهرة، في سبيل وضعه أمام واقعه الذي يحيطه بهالة من التكتم والإنكار، في تعزيز لدور الدراما في مواجهة المشاكل المستعصية مُجتمعياً.
زقاق الجن.. جرائم الجن
ويناقش مسلسل زقاق الجن، أثناء مشاهدتنا لحلقاته الثمان الأوائل، آثار الثقافة التقليدية التي تؤمن بعلاقة الجن بالجرائم، في إفلات الجُناة من بعض جرائمهم، فتمثل منطقة البساتين في المسلسل مكاناً مُحاطاً بالغموض مسكوناً بقطاع الطرق، والمشعوذين، والذين يرتكبون الجرائم، مستغلين خوف أهل القرية من أن تحل اللعنة على أحدهم.
وتصور الأحداث الدرامية بالمسلسل علاقة أصحاب السلطة ممثلين بدور شخصية أيمن زيدان، في تثبيت وحماية هؤلاء الناس، عبر تبني أبو نذير الشخصية المتسلطة والمتجبرة، ناجي ووالدته اللذين يمارسان الشعوذة والإجرام، وتوالت الأحداث حول خطف الأولاد نتيجة ربما تنمرهم على هيئة ناجي بشكل متكرر أثناء زياراته القليلة للقرية.
زقاق الجن، حي حقيقي موجود في العاصمة السورية دمشق، وتروي المصادر السورية الإلكترونية، حول الحي أنه وفي القرن الفائت فقد حب جني جنية ورفضته لأنها تحب أنسياً من المنطقة، فجُن جنونه ووقف على مدخل الزقاق مؤذياً كل من يدخل إليه، وفق رواية الكاتب خيري الذهبي "الجنية المفقودة"، والمنطقة تقع بين البساتين في غوطة دمشق الأمر الذي يفسر دور الرياح والطبيعة في سماع الأصوات الغريبة من قبل أهالي المنطقة، وتعود للخمسينيات من القرن الماضي "1950"، وباتت المنطقة اليوم منطقة صناعية متخصصة بالسيارات وإصلاحها."2"
الشخوص يتغيرون تبعاً لظروفهم
مثل الجزء الثالث من مسلسل حارة القبة، إعادة لتشكيل شخصية غازي بيك، والذي دخل على مدى جُزأين مع أبو العز في صراع من أجل السلطة في الضيعة نهايات العهد العثماني وبدايات العهد الفيصلي في البلاد السورية، إذ شكلت جريمة قتل صياح لفارس بن أبو العز، واتهام أبو العز لغازي بالجريمة، تحولاً في شخصية الأخير من القسوة والسطوة والجبروت، إلى الشعور بالظلم الذي وقع عليه ومحاولته رفع الظلم عن نفسه بمزيد من الانكسار أمام أبو العز وشقيقته سهيلا خانم.
أظهرت الحلقة التاسعة تكشف حقائق جديدة حول شخصية أبو العز، قد تنقله من دور الحكمة والخوف على العائلة ومحاربة الشر المحيط بالعائلة، إلى حقيقة ربما تصدم المشاهدين للمسلسل خلال أجزائه الثلاثة، وهذا يظهر من حوار أم العز مع أبو العز حول فطنه، والتي هي ليست بنت أبو العز وإنما قام أبو العز بخطفها في وقتٍ سابق.
تمثل الدراما الرمضانية، مادة دسمة للكتاب والنقاد على حدٍ سواء، لتفكيك شيفرات المسلسلات، وفهم وتحليل المضمون الخاص بالمسلسل، من مختلف الجوانب النفسية والاجتماعية والثقافية، وخاصة أن الدراما السورية انبعثت من جديد بعدما عملت سنوات الحرب على تقليل حضورها على الشاشة العائلية إلى حد معين، وبأعمال جريئة تناقش قضايا كانت تعد من التابوهات في المجتمعات العربية.
عمل الفنانون السوريون الكبار وأطفال مربى العز على خلق تنافس محموم بين الإنتاج الدرامي السوري، يؤكد الدور السوري المحوري في صناعة الدراما العربية خلال العقدين الأخيرين مقابل الدراما المصرية العريقة والخليجية التي تحاول إعادة ألقها عبر عودة طاش العودة، في قالب تقليدي، وبقضايا جديدة، راعت التغيرات التي طرأت على المجتمع السعودي خلال فترة انقطاع العمل السنوات الماضية.
تبقى للدراما مكانة حية في بناء ثقافات الشعوب، وتعزيز حضور الشعوب على مسرح الحياة الحضارية الكونية، مساهمة في معالجة وإلقاء الأنوار على الأمراض والتقرحات التي أصابت المجتمعات البشرية على مر الزمن، نتيجة عوامل ثقافية واجتماعية مُعقدة ومتشابكة.
المراجع:
1-بن قويدر وكركوش، أمينة قويدر وفتيحة كركوش، أطفال الشوارع في الوطن العربي:التشخيص وسبل التدخل، م آفاق لعلم الإجتماع، العدد 15، 2018، الجزائر.
2-قصة الجن في زقاق الجن في دمشق، Syria news.