كان العلم وما يزال نبراس الأمم، وسبيلا للرقي والتقدم، وقد آمنت دول عديدة في العالم بهذه المسلمة، فأولت اهتماما كبيرا بنظامها التعليمي. ورسمت أهدافا ومرامي على المستويين؛ البعيد والقريب، لتجني ثمار جهدها، وتتبوأ اليوم مكانة متميزة بين دول العالم.
في الأثناء، تعاني معظم الدول العربية من مشاكل وصعوبات مرتبطة بأنظمتها التعليمية، رغم خطط الإصلاح المتتالية، وتجريب العديد من المشاريع المستنسخة من تجارب غربية بالأساس، والاستعانة بخبراء بيداغوجيين ينهلون من ذات الثقافة الغربية البعيدة كل البعد عن ثقافتنا وخصوصياتنا، وحتى عن الاستعدادات العقلية والوجدانية والمعرفية لأطفالنا ومتعلمينا وطلبتنا. فلم تعْدُ تلك الحلول، وتلك الإجراءات، إلا أن تكون مجرد وصفات ترقيعية أوقفت نزيف الجرح مؤقتا لكنها لم تعالجه أبدا.
ولعل الهوة بين مخرجات النظام التعليمي وبين متطلبات سوق الشغل، تعد أبرز تمظهرات فشل نظامنا التعليمي، فأية قيمة لتكوين آلاف الخريجين سنويا، والذين سيصبحون في الوقت نفسه مجرد عاطلين، يرفعون نسب البطالة، ويؤججون شرارة الوضع الاجتماعي الصعب، ويتحولون إلى شبح يهدد استقرار الدول بعد أن كان من المفترض أن يمثلوا أمل تلك الدول ومستقبلها المشرق. وبالنظر إلى الإحصائيات المقدمة من جهات رسمية مسؤولة على قطاع التعليم، فإن أول انطباع يتملك المرء، هو الصدمة والدهشة معا، فقد أفاد وزير التربية الوطنية بالمغرب: شكيب بنموسى"، أن حوالي 300000 تلميذ وتلميذة يغادرون فصول الدراسة سنويا، أغلبهم من تلاميذ التعليم الابتدائي. وتكاد اختلالات النظام التعليمي تتشابه في مختلف الدول العربية الأخرى، من مشكلة الاكتظاظ في الفصول الدراسية، وعدم مواكبة المناهج والبرامج التعليمية لمتطلبات العصر، واهتراء البنية التحتية لمعظم المؤسسات، ومطالب أسرة التعليم المستمرة بتحسين أوضاعها الاجتماعية والمالية، والهوة السحيقة بين التعليم العمومي والتعليم الخصوصي، وصولا إلى الخضوع لإملاءات صندوق النقد الدولي، ما يؤدي إلى تسليع التعليم، والتعامل مع الفاعلين في هذا القطاع على أنهم مستخدمون وليسوا أطر تربية وعلم. ولعل عالم الاجتماع الفرنسي الشهير "بيير بورديو" في حديثه عن إعادة الإنتاج في النظام التعليمي، كان يستشرف حاضر الدول العربية، حيث تظهر العلاقة وطيدة بين الرأسمال الثقافي والاجتماعي الموروث وبين درجة النجاح، وحيث تمارس المدرسة عنفا رمزيا، فتفرض ثقافة الطبقات المهيمنة، وترسخ شرعيتها لإعادة إنتاج النظام القائم، بينما يتم إقصاء الطبقة الاجتماعية الدنيا.
نحتاج إذن إلى إصلاح شامل وفوري يهم منظومتنا التعليمية والتربوية، مع وضع سطرين تحت مصطلح " التربية"، والتي تعني إعادة ترسيخ القيم في نفوس الناشئة حتى لا ننتج جيلا من الضباع على رأي السوسيولوجي المغربي الراحل: "محمد جسوس". تلك القيم التي ساهمت في تكوين أجيال ما بعد الاستقلال، والذين ساهموا في بناء الدولة، وتوطيد دعائمها. بينما يسيطر اليوم نموذج جديد، غير محصن ضد التأثيرات المختلفة والتي يستقبلها في كل وقت وحين بفعل الثورة التكنولوجية الهائلة، وغالبا ما يستسلم لتأثيرها السلبي، وينقاد مرغما لتبني تلك الأفكار والصور النمطية والايديولوجيات المتطرفة، وما يدور في فلكها من تفسخ أخلاقي، واستلاب فكري، وتمجيد للعنف والتمرد، وسعي نحو الاختلاف الشاذ بكل أشكاله وأنواعه. ونحتاج أيضا لتغيير ثوري في برامجنا ومناهجنا التعليمية، ومراجعة جادة للإيقاعات الزمنية للتعليم، والتي لا تحترم خصوصيات الطفل المتعلم، ولا خصائصه الوجدانية والحسية، والحركية، والعقلية. ونحتاج لربط التعليم بالتقنية وجعل مدارسنا أقرب إلى ورشات، تلقن فيها الدروس النظرية بتزامن مع دروس عملية حول التعامل مع الآلات، وإذكاء ملكة الاختراع والابتكار. كما نحتاج إلى إعادة الروح إلى جامعاتنا من خلال تخصيص ميزانية مهمة للبحث العلمي، وإعادة الاعتبار لتدريس الفلسفة وعلم الاجتماع كعلوم تحث على التساؤل، والنبش في التفاصيل، والبحث عن حلول جذرية للمشاكل والأزمات، ونحتاج أكثر للاستثمار في العنصر البشري، فهو القوة الفاعلة والمؤثرة والتي يمكنها فعل الكثير لو توفرت على الإمكانيات، وهيئت لها الظروف، ووجدت تفهما أكبر، واعترافا أكثر.