المكان من أكثرِ العناصرِ أهمّيّةً في تشكيلِ جماليّةِ النّصِّ الأدبيِّ؛ لأنَّ مؤلّفَ النّصِ الأدبيّ ارتبطَ بهِ ارتباطًا وثيقًا منذُ ولادتِهِ الأولى، ومرورهِ بالمراحلِ النّمائيّة المتلاحقةِ، حتّى بلوغِه سنَّ القوامةِ واشتدادِ عودِهِ؛ لذا تجدُ المكانَ حاضرًا في أدبِ الأدباءِ بشكلٍ لافتٍ بكلِّ صورهِ الجغرافيّة والفيزيائيّة والواقعيّة والرّوحيّة والخياليّة، فلا يمكنُ الانفصالُ عنهُ أو اعتبارُه خارجًا عن المتنِ الأدبيِّ العامِّ للنَّصِّ الأدبيّ الإبداعيّ بكافّةِ أنواعِهِ، كما أنَّ له دورًا رئيسًا في تحديدِ اتّجاهِ الرّؤيةِ الأدبيّةِ للمؤلّفِ؛ إذْ على أرضهِ تشكّلتْ معالمُ الشّخصيّةِ الإنسانيّةِ، وارتسمتْ خطوطُ البداياتِ الأولى للتّجربةِ الأدبيّةِ.
وتكمنُ أهمّيّة المكان في اعتبارِهِ السّاحةَ الّتي تتوالى عليها الأحداثُ والمجرياتُ الّتي يمارسُها الشّخوصُ؛ فينتجَ عنْ تلكَ الممارسةِ صراعٌ نفسيّ يتقدّمُ بالأحداثِ نحو الأمام، ولا غرابةَ فيْ أن نجدَ المكانَ بفضاءاتِهِ الممتدّةِ ذا عمقٍ ارتباطيٍّ بالنّصِّ الأدبيِّ، فلا حدودَ تحدّهُ ولا نقاطَ نهاياتٍ ينتهيْ عندَها فيضطرُّ الأديبُ إلى الاكتفاءِ بالبحثِ والوقوفِ، فما من نصٍّ أدبيٍّ إلّا ونجدُ فيهِ إشاراتٍ للمكانِ ومسمّياتٍ معلنةً ومظاهرَ جماليّةً مصوّرةً بدقّةٍ متناهيةٍ، فعلى سبيلِ استعراضِ اهمّيّةِ المكانِ في النّصِّ الأدبيِّ كانَ الشّعراءُ الجاهليّونَ في مقدّمةِ من اعتنَوا بالمكانِ حينَ قدّموا لوحاتِهم الشّعريّةِ الخالدةِ إلى يومِنا هذا في العصر الجاهليّ، حتى إنّ الشاعر الجاهلي مسكون بالطلل في حله وترحاله.
فما المقدّمةُ الطَّلليّةُ إلّا صورةٌ واضحةٌ لاعتنائهم بالأمكنة الّتي مثّلتْ مواطنَهم، وبداياتِ دخولِهم في بناءِ العلاقاتِ الإنسانيّةِ داخلَ المجتمعِ الّذي عاشوا فيه، وتعلّموا على أرضِهِ تقاليدَ المجتمعِ وقيمَه وعاداتِهِ؛ حتّى أصبَحتْ الأمكنةُ فيما بعد رموزًا دالّةً على انطلاقِ مسيرتِهم الشّعريّة من خلالِ تصويرِ معاناتِهم من هجرِ المحبوبةِ عن أماكنِ سكناها، وترحالِهم الطّويلِ في البحثِ عنْ مواطنِ إقامتِها الجديدةِ، أو تصويرِ أحداثِ الحروبِ في ساحاتِ الوغى دفاعًا عن الأمكنةِ وبذلِ الأرواحِ في سبيلِ استردادِها من الأعداء، وفرضِ السّيادة بينَ القبائلِ المتناثرةِ في عرضِ الصّحراء الّتي هي المكانُ الأرحبُ، وما كلُّ ذلكَ إلّا استحضارٌ للتّجربةِ الشّعريّةِ الّتي صارَ المكانُ حاضِنتَها.
ومَعَ تَقَدُّمِ الزّمَنِ صارَ للمكانِ أبعادٌ جديدةٌ مختلفةٌ باختلافِ البيئةِ والتّقاليدِ والأعرافِ عن الأبعادِ التّقليديّة الّتي ألفها الشّاعر في القديم، وهذا يحيلنا في المحصّلةِ الأخيرةِ إلى اعتبارِ العلاقةِ بين الشّاعرِ والمكانِ علاقةً تلازميّةً حميميّة تخضعُ للتّجربةِ الشّعريّة الّتي يمرُّ بها الشّاعرُ؛ ليكونَ المكانُ فيها حاضرًا ومألوفًا لديهِ، وله خاصيّةٌ مميّزةٌ، ونصيبٌ وافرٌ من الاهتمامِ يجعلُ حضورَهُ طاغيًا في المنجزِ الشّعريّ للشّاعرِ.
واتّخاذُ المكانِ هذه الأهمّيّة الكبيرة في شعر الشّعراءِ ما هو إلّا دليلٌ جليٌّ على الارتباطِ النّفسيّ به، والتّوحّد الذّاتيّ معه؛ بحيثُ أصبحَ حضوره جوهريًّا على أرضِ النّصِّ الشّعريّ كما هو في واقعِ الحياةِ، ويفسّرُ هذا الارتباطَ ما نجدهُ من تفاعلٍ واضحٍ معَ عنصرِ المكانِ في كثيرٍ من القصائدِ حينَ نقلّبُ صفحاتِ الشّعر.
وللمكانِ وفقَ المفهومِ العامِّ دلالاتٌ متعدّدةٌ، منها ما هو طبيعيٌّ جغرافيٌّ أو ماديٌّ أو اجتماعيٌّ أو تاريخيٌّ أو ثقافيٌّ، وهذا الثّراءُ الدّلاليُّ يعتمدُ على التّوظيفِ النّصِّيْ للمكانِ من قبلِ الشّعراءِ، فكلُّ شاعرٍ له رؤاه الخاصة في التّوظيفِ النّصّيِّ للمكانِ من قبلِ الشّعراء، وكلُّ شاعرٍ له أسلوبهُ في وصفِ تجلِّياتِ المكانِ وإضفاء الرّمزيّة عليها، وإلباسِهِ زيًّا من الرّمزيّةِ، وذلك انطلاقا من استيعابهم لتعددية المدلولات للدال الواحد في ميدان الأدب الذي يخترق هذا القانون، فيجعل للدال إمكانية تعدد مدلولاته، وهو ما عبر عنه الأسلوبيون بمصطلح (الاتساع).
وللبيئةِ المكانيّة أهمّيّة في اكتسابِ السّماتِ الشّخصيّةِ للإنسانِ وللشّاعرِ بشكلٍ خاصٍّ، فتفاعلُهُ مع المكانِ يتركُ عنده أثرًا إيجابيًّا أو سلبيًّا؛ فينعكس ذلك على رؤيتِهِ الشّعريّةِ وتوجّهِ مسارِهِ الإبداعيّ، والشّاعر الأردني مصطفى وهبي التلّ شأنُه شأنُ الشّعراء الآخرينَ لم ينظر للمكانِ على أنّهُ حيّزٌ جغرافيٌّ فارغٌ من الرّوحِ والإحساسِ، بل نظر إليهِ نظرةً استشرافيّةً، وفهم حقيقتَهُ، واستطاع الوصولَ إليهِ شعريًّا وإنْ لم تقعْ عليه أقدامه، فبثّ إليهِ همومه ومعاناته، وحقّق بالتّفاعلِ معه رؤاه الشّعريّة، وتكيّف معهُ وأحال إليهِ توجّهاتِه الفكريّة؛ باعتبارِهِ مسرحًا للقضايا الإنسانيّة على مرّ الأزمانِ، هاربا إليهِ في ساعاتِ الضّيقِ، ومستبشرًا به في لحظاتِ الإقبالِ على الحياةِ؛ ومن هنا لم يتركهُ معزولًا عن حياتِه وممارساتِه اليوميّة؛ ليصبحَ المكانُ بالنّسبة له على وجهِ الخصوص المُلْتَجَأَ الّذي يجد فيه الرّاحة والاستقرار والحماية.
وإعادةُ إنتاجِ المكانِ الشّعريّ تتطلّبُ من الشّاعرِ أنْ يكونَ مُدْرِكًا للحدودِ الواقعيّة قبلَ الانتقالِ لرسمِ هذه الحدودِ خياليًّا، وهذه الصّناعةُ الفنّيّةُ للمكانِ تعتمدُ على قدرةِ إنتاجِ الدّلالاتِ الجديدةِ للمكانِ، بالاتّكاءِ على التّصويرِ الفنّيِّ والرّسمِ البلاغيّ، وهنا تبرزُ الملامحُ الجديدةُ الّتي أضافَها الشّاعرُ، وهيَّأَها لإبرازِ صورة المكانِ بحلّتِهِ الجديدة؛ لتتغيّرَ دلالةُ المكانِ من مجرّدِ أنّهُ يعني بدء تدوين التّاريخ الإنسانيّ، والارتباط الجذريّ بفعل الكينونة لأداء الطّقوس اليوميّة للعيش، وللوجود، ولفهم الحقائق الصّغيرة لبناء الرّوح، وللتّراكيب المعقّدة والخفيّة لصياغة المشروع الإنسانيّ ضمن الأفعال المبهمة إلى دلالاتٍ أكثرَ رحابةً تفتَحُ على أفقٍ واسعٍ يحتاجُ إلى وقوفٍ، واستعادة للمعاني والمضامينِ الدّلاليّة.
يُعدُّ المكانُ الأوّل الّذي يشهدُ فيه الشّاعرُ بداياتِ طفولتِه الأولى الأكثرَ حضورًا في قاموسِهِ الشّعريّ؛ وذلكَ أنّهُ أحدُ أبرزِ المكوّناتِ اللاشعوريّةِ الثّاويةِ في عقلِ الشّاعر، بوصفِهِ المكان الأثير لدى النّفسِ، ومن هنا نلمحُ التّفاعلَ معَ بنيةِ هذا المكانَ أكثرَ انفعالًا واستدعاءً من الأمكنةِ الأخرى في المنجزِ الشّعريّ العامّ للشّاعرِ.
وقدْ ساعدَتْ علاقةُ الشّاعرِ بالمكانِ على أنسنتِهِ والإحساسِ بهِ، وبناءِ حالةٍ من الارتباطِ العاطفيّ معهُ، واللجوء له كملاذٍ في أوقاتِ الخوفِ والقلقِ والاضطرابِ، والتّواؤم معه ومناجاتِه بلغةٍ حواريّةٍ أقربَ ما تكونُ لمناجاةِ العاشقِ لمعشوقته، بالإضافةِ إلى الانفتاحِ عليهِ ورفضِ بقائهِ منغلقًا على العالمِ من حولِه؛ لذا لا يفترُ لسانُ الشّاعرُ عن أنْ يكرّرَ ألفاظًا بعينِها قد تكونُ أسماء أو أماكن أو ما شابه ذلكَ؛ ولدلالةٍ نفسيّةٍ شعوريّةٍ يكونُ التّكرارُ بؤرةَ تلكَ الدّلالةِ النّفسيّةِ الشّعوريّة، أو قد يكونُ مركزَ ثقلِها.
ومنْ خلالِ تتبّعِنا لكثيرٍ من الشّعراءِ المعاصرينَ نجدُ أنّهُم قد أفادوا من التّجارب الشّعريّة للشّعراء القدماء، فمنهم من استمرّ على نهجِهم في هيكلة القصيدة شكلًا ومضمونًا معَ الاختلافِ في الرّؤى والمواضيعِ المطروقة؛ لاختلافِ الزّمانِ والمكانِ والأجواء المؤثّرة في صقلِ شخصيّةِ الشّاعر، ومن الشّعراء المعاصرين من خرجَ على نمطيّةِ القصيدة المتّبعة، فاستدار بعجلةِ التّقدّم إلى اتّجاهاتٍ أخرى، معَ المحافظة على الأصالةِ والرّيادة الأولى الّتي لا يمكنُ إنكارُها بأيّةٍ حالٍ من الأحوالِ.
وفي ظلّ هذه التّغيّرات المتتابعة في ميدانِ الشّعر ظلّ المكانُ حجرَ الأساسِ في إشادةِ البناءِ الشّعريّ التّامّ، وعليهِ ارتفعتْ أعمدةُ التّجاربِ الشّعريّة للشّعراءِ الّذين وهبوا كثيرًا من الأمكنةِ قداسةً، فلمْ يكتفُوْا بذكرِها جغرافيًّا ووصفِها تاريخيًّا، بلْ أسبغُوا عليها كثيرًا من العلاماتِ المميّزةِ لها عن غيرِها من الأماكنِ الأخرى المتكرّرةِ في أشعارِهِم، والمهيمنةِ على كثيرٍ من قصائدِهِم الشّعريّةِ، وهذه الأماكنُ المرصودةُ في غالبِها أماكنُ واقعيّةٌ مشاهدةٌ بالعينِ، لازمُوها لسنواتٍ من حياتِهم، وعاشُوا فيها مراحلَ من تكوّنِ ثقافاتِهم وتنميةِ أفكارِهم؛ لذلك نجد أن المنهج الذي اقترحه التحليل السيميائي يمكنه الوصول إلى نظام التحكم في البيئتين السطحية والعميقة للنص الشعري بمعالجة موضوع المكان.
وَممّا لا شكَّ فيهِ أنَّ لكلِّ إنسانٍ مكانًا خاصًّا يمنحُه الإحساسَ بالانتماءِ والوجودِ ويوقظُ شعورَ الحنينِ في نفسِهِ كلّما داخلهُ شعورٌ بالاغترابِ والمفارقةِ، ويعودُ الاندماجُ بالمكانِ الواقعيّ الخاصِّ إلى أسبابٍ متعدّدة، منها ما هو عائدٌ إلى التّنشئةِ الأُولى من حياةِ الإنسانِ (ولادةً وطفولةً وذكريات)، ومنها ما متعلّقٌ بتجربةٍ عاطفيّةٍ أو اجتماعيّةٍ أو نفسيّةٍ أو غيرِ ذلك، كأنْ يكونَ المكانُ منزلًا للمحبوبةِ، أو وطنًا استُبِيْحَ من قبلِ العدوّ وشُرِّدَ أهلُهُ، أو مكانًا له دلالتُهُ الدّينيّة في النّفوسِ، كالمساجد والأماكن الدينية مثلا.
وقدْ شكّلَ المكانُ لدى الشّعراءِ عنصرًا من عناصرِ تشكيلِ القصيدةِ الحديثةِ، ونالَ نصيبًا وافرًا من الذيوعِ في قصائدِهم، وصارَ اتّصالُهم بالمكانِ في كافّةِ أشكالِهِ سمةً لافتةً للنّظرِ وتستدعي الوقوفَ عليها ودراستها، وتندرجُ تحتَ هذا العنوانِ الأماكنُ الّتي يأوي إليها الشّعراء باحثينَ عن الطّمأنينةِ والصّفاءِ، والهدوء والسّكينةِ كالبيتِ الصّغيرِ الّذي يعيشُ فيهِ، أو البيت الكبيرِ وهو الوطنُ الّذي يمنح النّفس الطُّمأنينة والحماية، إلا أنَّ الوطن عامٌّ والبيت خاصٌّ، والوطن موطن الألفة والانتماء الّذي يمثّل حالة الارتباط البدئي المشيمي برحم الأرض (الأمّ)، ويرتبط بهناءة الطّفولة وصبابات الصِّبا.