لطالما كانت الكتابة هاجساً لدى العديد من الناس، يتخذونها ذريعة للهرب من الواقع، أو قد يتخذها البعض الآخر وسيلة لإظهار ثقافتهم أمام الملأ، كاستبيان لإمكاناتهم الخارقة ومعرفتهم المذهلة.
هل هي تأريخ لحياة المجتمع. لكن لحظة؟
هل الكتابة هي فعلاً وجدت لأجل هذه الأشياء؟
اللسان والأسلوب هما قوة عشواء، أما الكتابة فهي فعل تضامن تاريخي
-رولان بارت
نعود قليلا للوراء، قرابة 2000 ق.م لنرى كيف كانت المحاولة الأولى للتدوين.
لنأخذ ملحمة جلجامش مثالاً، تلك القصيدة الطويلة التي كُتبت باللغة الأكدية وتجسد قصة الملك جلجامش ومغامراته في البحث عن الخلود، وقصة صديقه انكيدو الذي وافته المنية خلال هذه المغامرات. كل هذه الرحلات في البحث الخلود.
إننا نبصر قصة ملك، ترك الثراء والمُلك ورفاهية الاشياء، ليدخل في رحلة عبثية بحثاً عن الخلود. إننا نُبصر في ذواتنا من خلال رؤية هذه القصة بحثاً في نفس جلجامش عن الوجود السرمدي الذي غطى حياة هذا الملك، لكنها أيضاً رحلة في نفس الكاتب الذي صنع لنا هذه الملحمة، كما هي رحلة دانتي في غيبيات العالم الاخر، رحلة البحث في الجحيم والنعيم. وتتعدد الأمثلة لنرى في الكتابة إنموذجاً عن البحث في وجود كيان الكاتب لتكديس كل تلك الذكريات ونحتها كأحداث وشخوص، إنها محاولة في إيجاد مغزى للوجود، من خلال استرجاع الماضي، ليتجلى في صورة مكتوبة.
إن أحد أهم الأمثلة التي تبرهن على أن الكتابة هي بحث عن الوجود، أكثر من مجرد تأريخ أو فن أو إثارة الاعجاب، هي رواية القرن العشرين العظيمة ( البحث عن الزمن المفقود).
يتجلى مارسيل بروست في كتابة هذا العمل، كوسيلة لإسترجاع الماضي والنبش عن تلك الذكريات الدفينة بحثاً عن الوجود بدلاً الزمن المفقود، كشخصية بين تلك الطبقات الارستقراطية التي تنهار جزءاً بعد الآخر، يبين لنا بروست هشاشة الوجود في بحثه من خلال تداعي الافكار في شخصية مثل البرتين، لنستدعي من خلالها بحث بروست الحقيقي، ألا وهو بحثه عن الوجود.
يمكننا أيضاً رؤية البحث عن الوجود في رواية مقبرة براغ لأمبرتو ايكو، بشخصية سيمونيني التي تكره كل الاشياء، باحثاً عن وجوده من خلال شهوته للطعام طارداً الجنس من حياته. وكمثال أخير، لا يمكننا نسيان الدون كيخوته وبحث ثيرفانتس عن الوجود من خلال بحث الدون كيخوته عن الفروسية، وعن أهمية أن يصبح فارساً. لنرى بالمحصلة، أو كما نستطيع أن نبصر، أن الكتابة هي بحث دؤوب عن الوجود، وليست اداة للمتعة، أو معرفة مضنية، أو مباهاة. الكتابة في المجمل، هي الأداة التي تبقي على إنسانيتنا.