"إن الفروقات الشخصية موجودة منذ الولادة، لكن التجربة الشخصية تشكل العقل الفردي والشخصية، حتى لو كانت تلك العقول متطابقة وراثيا، تستطيع نحت دماغك عن طريق إعطائه حريته والبحث عن أماكن جديدة فيه وتجربتها".
لطالما كانت المعرفة قوة، والاستزادة من العلم والمعرفة من الشهوات والأطماع الحميدة، إلا أنها ارتبطت شيئا فشيئا في إنهاء شهادات علمية، وارتياد المدارس والجامعات بالصورة التقليدية. هذه الصورة تحصرنا في اللهاث للحصول على درجات مرموقة أو إضافة لقب تعريفي أمام اسمنا. إلا أن رحلة الاغتراف من المعرفة أطول وأعظم من مجرد الحصول على شهادة أو لقب، ولا تنحصر بشكل واحد، بل تتنوع وتختلف على اختلاف احتياجاتنا ومقاصدنا.
لماذا علينا ألا نتوقف عن التعلم؟
يعد التوق للتعلم واكتشاف أفكار ومعلومات وإتقان مهارات جديدة من أهم الأساسيات التي تضفي معنى ذا قيمة لحياتنا، وبلا شك كانت رغبة الجنس البشري في التطور هو ما دفع عجلة الحياة وأنقذنا من الانقراض، فمنافع هذه القوة تمتد بلا شك معنا لما بعد سنوات الدراسة وفي جميع مراحل حياتنا.
مصادر التعلم الذاتي
تتنوع مصادر التعلم وتتعدد لتشمل وتلبي مختلف الاحتياجات. كل ما عليك هو أن تحدد وجهتك ورغبتك في اكتشاف موضوع، حتى تجد ما لا يحصى من المصادر والطرق والمواد التعليمية لتأخذ بيدك إلى وجهتك. لكن، ماذا لو أغرقتنا كثرة المعلومات المتاحة في دوامة من الإحباط والشعور بالعجز بكيفية البدء والقدرة على الإلمام بكل هذه المعارف؟ يعتبر موضوع التعلم من أهم المواضيع التي قامت على أساسه العديد من الأبحاث العلمية والدراسات في علوم النفس والأعصاب والسلوك المعرفي، وما تزال الاكتشافات تتدفق في هذا المجال دون توقف، إلا أن إلمامنا ببعض التقنيات والخطوات البسيطة قد يكون له أثر كبير ومساهمة فاعلة في مساعدتنا على التعلم وإتقان هذه المهارة.
تعلم كيف تتعلم
يتمتع عقلنا البشري بقدرات مذهلة، ولنتمكن من الاستفادة القصوى منها علينا محاولة استكشاف كيف تعمل، وفهم الطريقة التي تعمل بها أدمغتنا، ومن أروع الاكتشافات بالنسبة لي كان مساقًا تعليميًا يلخص أهم الدراسات والأبحاث في علم الأعصاب وعلم النفس المعرفي مستخلصًا منها أفكار بسيطة التطبيق إلا أنها ذات تأثير قوي، وفيما يلي مجموعة من أهم هذه الأفكار التي طرحها المساق حول آلية التعلم، سنستعرضها سريعًا.
1. التعريف بوضعيات التفكير المركز والتفكير المشوش.
هما عبارة عن نوعين من أنواع التفكير التي وصفتهما باربرا أوكلي في هذا المساق وفي كتابها أيضاً "عقل يفهم الأرقام" حيث يشير الوضع المركز من اسمه إلى نوع من التفكير الذي يركز على مهمة محددة أو مشكلة معينة، ويقوم هنا دماغنا بتحليل وتفكيك الموضوع إلى عدة أجزاء، ويتميز هذا الوضع بتنشيط فص الجبهة الأمامية الذي يتحكم في الأنشطة الذهنية العقلانية والتحليلية. بينما يشير الوضع المشوش إلى نوع من التفكير ذو طابع استرخائي وأقل تركيزًا، وينطوي على السماح للعقل بالسرحان وإيجاد صلات بين الأفكار التي لا علاقة لها. ويتميز هذا الوضع بتحفيزه الدماغ على التفكير الإبداعي والربط بين الأفكار المختلفة. يعتبر كلاً من الوضع المركز والمشوش مهمين لحل المشكلات والتعلم. فتتمثل أهمية الوضع المركز بمساعدته تفكيك المشكلات المعقدة إلى أجزاء قابلة للإدارة وللتحليل المنطقي، بينما يفيد الوضع المشوش في إنتاج أفكار جديدة وإبداعية وفي إيجاد صلات بين مفاهيم لا علاقة لها. لذلك من المهم تعلم استخدام هذين الوضعين بشكل متوازن عند بدء تجربة تعلم موضوع جديد بالنسبة لنا. ويُذكر عن الفنان السريالي سلفادور دالي طريقته المثيرة في ابتكار لوحاته السريالية المبدعة من خلال التبديل بين هذين الوضعين، حيث كان يلجأ إلى التركيز في فكرة معينة دون تشتيت وبعدها يلجأ إلى الاسترخاء على الكرسي ويترك لعقله وخياله العنان، بينما يحمل مفتاحاً في يده، حتى إذا غط في نومه سقط المفتاح من يده ويوقظه ضجيجه، ليعود إلى أفكاره وقد تشكلت لديه صلات وروابط جديدة أكثر وضوحاً لما يود تجسيده في لوحاته!
2. أهمية النوم للدماغ وفي تركيز عملية التعلم.
لا يخفى على أحدنا ما للنوم من فوائد لصحة العقل وتعزيز الذاكرة، إلا أن ما تم توضيحه وذكره في المساق هو شرح لكيفية قيام العقل من خلال النوم بربط الأفكار والمفاهيم التي تتعلمها وتحاول التفكير بها وتعزيزها، وتركيزه على بعض الأجزاء الصعبة مما يحاول تذكره فيقوم بالمرور على الأنماط العصبية التي تشكلت خلال فترة تعلمك ويقوم بتقويتها وتعميقها، وحذف الجزيئات غير الهامة من الذكريات وتعزيز الأجزاء التي تحتاج أو ترغب في تذكرها، بالإضافة إلى أن فقدان الوعي الكامل يساعد مناطق الدماغ على إيجاد صلات بينها مما لذلك من تأثير جلي على قدرتك في فهم المسائل الصعبة.
وبالإضافة إلى ما ذكر يقوم الدماغ خلال النوم بتنظيف السموم الناتجة عن عملية الأيض، ومن هنا ينصح بأن تتصفح ما تعلمته مباشرة قبل النوم، وتجنب الذهاب لأي اختبار دون أخذ قسط كاف من النوم لما لذلك من تأثير في مساعدة الدماغ على التفكير بوضوح.
3. الممارسة المنتظمة لما تعلمته.
يعد تطبيق ما تعلمته وممارسته على أرض الواقع من أهم الطرق التي تعمل على ترسيخ المعلومة وربطها بطريقة فعالة وذات فائدة، الأمر الذي يعمل على تقوية الروابط العصبية التي تم تكوينها أثناء عملية التعلم، لكن قد يكون تطبيق ما تعلمته على أرض الواقع أمراً مفهوما ومنطقيا في حال كان موضوع التعلم يتعلق باكتساب مهارة بدنية أو ذهنية كتعلم العزف أو ممارسة رياضة، لكن ماذا إذا كانت عملية التعلم تخص مفاهيم مجردة كالتي نتعلمها في مواضيع الرياضيات والعلوم؟ المدهش أن الجواب كلما كان الموضوع أو الشيء التي تود تعلمه أكثر تجريدا كلما زادت أهمية التدرب عليه وممارسته، فما يحدث عند تدربك على حل مسألة رياضيات هو تكوين روابط عصبية يزداد ترسيخها بالتكرار، على أن يكون التكرار بشكل يجمع بين الوضع المركز والوضع المشتت مما يسمح للدماغ باستيعاب المعلومات وترسيخها في الذهن وتمكينك من العودة لها بسهولة.
4. التسويف
ما الذي يمنعنا من اتباع أحلامنا في التعلم وإتقان ما نرغب في تحقيقه من مهارات وممارستها؟ إنه العدو الأكبر التسويف، لكن في حال تتبعنا الأسباب العلمية وراء عملية التسويف والتأجيل سنجد أنه عند رغبتك في تعلم شيء ما، هذا يعني أنك تحتاج إلى بذل وقت وجهد بشكل خاص لن تكون معه قادراً على عمل أشياء أخرى أكثر متعة في هذا الوقت، الأمر الذي يؤدي إلى ربط ذلك بمناطق مرتبطة في دماغك بالمتاعب، مما يدفع ذهنك إلى تحويل وتشتيت انتباهك إلى شيء آخر لإيقاف المشاعر السلبية المرتبطة ببدئك بهذا العمل. إلا أن الخبر السار أنه بمجرد ما بدأت العمل والتعلم متغاضياً عن هذا الشعور المزعج والرغبة في التأجيل، فسيختفي هذا الأرق بعد مدة قصيرة وسيستعاض عنه بشعور الإنجاز واللذة والفرحة الغامرة في التعلم. ومن أبرز الطرق الناجعة في معالجة التسويف هي عدم التركيز على ما يقلقك والبدء فيما ترغب تعلمه وإنجازه لفترة من الزمن مع تركيز مكثف والابتعاد عن المشتتات مع ضبط الوقت لمدة ينصح بألا تقل عن 25 دقيقة وبعدها تتوقف وتقوم بمكافأة نفسك، كقيامك بنزهة قصيرة، أو إعداد وجبة شهية، أو التحدث مع صديق.... الخ. الذي يحدث هنا هو استجابة دماغك للمكافآت وإفراز هرمون الدوبامين وغيرها من الهرمونات المحفزة وممتعة جدًا لدماغك الذي سوف ينتظر بفارغ الصبر فرصًا جديدة لتكرار التجربة، وبتطبيق هذه الأمور التي قد تبدو بسيطة للغاية مع إدراكك لأهميتها على المدى البعيد ستكون قد عالجت شعورك الخفي بالرغبة بالتأجيل وإرجاء ما تود تعلمه واكتساب شعور لذيذ بالإنجاز.
وقد تطول قائمة النصائح والحقائق العلمية المستخرجة من دراسات حول آلية التعلم واكتساب المهارات، ولكن الأمر سيكون مرده دائمًا إلى رغبة كل فرد بالبحث عن أفضل الطرق المناسبة له من حيث الوقت والمادة وتحديد نقاط قوته وضعفه في الموضوع الذي يرغب في تعلمه، لكن يوجد بعض الروابط تم تحديدها جمعت بين العديد من الفنانين والرياضيين والعلماء والتي تمثلت في تحديد أهداف واضحة للتعلم، ثم الانغماس في المادة أو الموضوع التي ترغبون إتقانه عن طريق جمع المعلومات والمصادر والملاحظات، ثم الممارسة وامتلاك عقلية منفتحة تدفع الشخص للنمو بدلا من الجمود تساعدهم في تقبل التحديات والاستمرار في مواجهة النكسات التي لا بد أن تواجهنا في أي مرحلة من مراحل التعلم في حين يكون الأشخاص ذوو العقلية الجامدة أكثر ميلاً للتخلي عن المهام الصعبة أو تجنبها.
الجدير بالذكر أن للتعلم مذاق حلو تصبح الحياة معه أكثر متعة، وعلينا أن نعود له كلما أبعدتنا مهام ومشاغل الحياة عنه، دون حصره بأي شكل سواء كان ذلك بقراءة كتاب، أو حضور ورشة تدريبية، أو بتأمل لوحة واستحضار الإلهام منها أو قراءة قصيدة وتحليلها أو اختبار شيء جديد تريد أن تعرف عنه أو تتقنه. وهذا ما تصفه د. سوزان رينولد "إن فروقات الشخصية موجودة منذ الولادة، لكن التجربة الشخصية تشكل العقل الفردي والشخصية، حتى لو كانت تلك العقول متطابقة وراثيا، تستطيع نحت دماغك عن طريق إعطائه حريته والبحث عن أماكن جديدة فيه وتجربتها".