تجاوزت اللغة في وظيفتها مهمة التواصل بن الأفراد، ولم تعد أداة للتعبير فقط، أو وعاء نقل العلوم والمعارف فحسب، بل امتد تأثيرها اليوم ليضرب عميقًا في هوية الأفراد وحضارتهم، وأمنهم الاجتماعي والنفسي كذلك.
ليست اللغة المكون الوحيد لهوية الأمم، لكنه بالتأكيد أهمها، والأمم التي تعي هذا الأمر تتصرف بناء عليه، وتصبح لغتها هي المنطلق الذي تقدّم به نفسها للأمم الأخرى، وتتفاعل عبرها مع المجتمعات المختلفة، وتكون لغتها الأصلية مصدر فخرها بشكل عملي تعبر عنه القوانين والتشريعات المصاغة بها، واحترامها وفرضها في معاملات الدولة واتفاقيتها.
في مجتمعاتنا العربية وقعنا فريسة لخديعة كبيرة اسمها التقدم التكنولوجي، وبتنا مقيدين بوهم اللغة المرتبطة حصرًا بهذا التقدم، وأن لغتنا لا تناسب هذا التطور الذي أصاب مجالات الحياة كافة، وأنه لا يمكن أن نعثر في اللغة العربية على مفردات تكافئ تلك الموضوعة بالإنجليزية، وتعطي الدلالة المعنوية نفسها، فأرحنا أنفسنا من عناء البحث والتعريب، واستسهلنا الإبقاء على المفردات باللغات الأخرى، حتى باتت تُستخدم في السياقات العربية وكأنها من صلب لغتنا. هذه النظرية النفعية تضر اللغة، وتضر بالهوية الثقافية الحضارية للفرد العربي، وتهدد أمنه النفسي والاجتماعي.
لا أريد الغوص الآن في استحضار تجارب أمم غيرنا في دفاعها عن لغاتها الأصلية، ولستُ في وارد المقارنة في هذه المدونة، بل ما أود التركيز عليه أن اللغة العربية تكتسب قيمة إضافية ودورًا آخر بسبب احتضانها الدين الإسلامي، والرسالة الإلهية الخاتمة للبشرية، ذلك أن كثيرًا من المسلمين هم من غير العرب، وهم بهذا الوصف يحتاجون تعلم اللغة العربية من مصادرها الأصلية، وهذه المصادر اليوم باتت تتعرض لتشويه نُسهم نحن في تعميقه، مع أن الوضع الطبيعي أن نجعل خصوصية لغة الأمة وخصوصية الدين المرتبط بلغتنا مصدرين من مصادر قوة اللغة، ونشرها والاعتناء بها دون أن يؤثر هذا الاعتناء في تفاعلنا مع الآخرين ولغاتهم، ذلك أنه من غير المنطقي أن يكون تواصلنا مع الآخر على حساب لغتنا نحن، بينما يُسهم هذا التواصل في تعزيز لغة الآخر وحفظها ونموها.
مسألة أخرى وقعنا فيها هي الرفض المطلق للعامية، ومهاجمة اللهجات المحكية، وبتنا نطلب التحدث بالفصحى حتى وقعنا في الفصحى المقعرة التي تنفر أكثر مما تجذب، وصار كثير من أبناء الأمة يعبرون صراحة عن رفضهم مفردات كثيرة لأنها -بنظرهم- لا تناسب روح العصر، وباتت غير صالحة للاستخدام اليومي، مع أن نظرة ناقدة لواقع اللهجات العربية المتباينة بين مشرق الأمة ومغربها يُستشف أنها يمكن أن تكون رديفًا داعمًا لتعزيز استقرار اللغة، وأن هذا التعدد هو من مميزات العربية، فاللهجات ليست بعيدة كثيرًا عن اللغة العربية الفصيحة، ويمكن لأشخاص عرب من دول عديدة التفاهم والتواصل بتلك اللهجات، والوصول إلى كلمات مشتركة قريبة من الفصحى، وهذا الأمر لا يمكن الوصول إليه إلا إذا كانوا عربًا لغتهم الأصلية هي العربية.
الحفاظ على هوية الأمة من بوابة لغتها الأصلية لا يتعارض إطلاقًا مع تعلم لغات الآخرين وإجادتها، لكن المحزن هو استبدال الهوية اللغوية الأصلية بأخرى مختلفة بحجة التطور ومجاراة الحداثة، متغافلين عن أن هذا الأمر يتنافى مع العمق الحضاري والثقافي للغة الأمة الأصلية، وسيكون موقفهم مكشوفًا لأصحاب اللغة الأصلية.
نحن بحاجة إلى تأطير الوعي الفردي لأبناء اللغة بقرار رسمي تتخذه المرجعيات المسؤولة لحماية اللغة، وفرض التشريعات التي تحميها وتطورها وترعاه، فقضية اللغة جوهرية ومرتبطة بتفرعات هوية المجتمع والأمة.