صعوبات عديدة واجهتنا في البحث عن أصول القصة القصيرة وتعريفها، وقد أشار د. لحمداني في حديثه عن مفهوم القص، أن تعريف الأخير أبسط بكثير من تعريف جنس أدبي محدد كالقصة القصيرة . رغم ذلك فقد حاولنا الإحاطة بمفهوم القصة القصيرة، نشأة وتعريفا، رغم تشعبها وكثرتها.
نشأة القصة القصيرة
تتميز القصة القصيرة عن باقي الأجناس الأدبية بعدة خصائص، يمكن أن تصنف ضمن عدة مستويات منها المستوى اللغوي والمستوى البنائي والتوظيف القصصي للملفوظات، وغيرها . وبما أن القصة القصيرة جنس أدبي جديد نوعا ما، مقارنة بباقي الأجناس، فإنها وفي كل مرة تكتب أو تنكتب، تكشف عن شيء جديد، عن علاقة جديدة باللغة وبالبناء القصصي، فهي تجربة كتابة متجددة في كل مرة نبدعها فيها .
يرتبط ميلاد القصة القصيرة بميلاد الصحافة، فهذه الأخيرة هي التي حولت الحكاية من طابعها الشفهي إلى تحققها عن طريق الكتابة بمنحها حيزا صغيرا على صفحاتها . وقد ساعدت الطبقة الوسطى على انتشار القصة القصيرة بين عموم القراء، باعتبارها الطبقة المهتمة أكثر بقراءة الصحف .
يمكن القول إن الكاتب الفرنسي غي دو موباسان هو عراب القصة القصيرة في فرنسا، الذي اعتبر أن أفضل تعبير عن اللحظات العابرة يكمن في القصة القصيرة ، وإدغار ألان بو فيُعتبر عرابها في أمريكا، أما أنطوان تشيخوف فقد برع في هذا الجنس الأدبي في روسيا؛ إذ يعد هؤلاء الثلاثة هم مؤسسو القصة القصيرة الحديثة. بينما في الأدب العربي لم يتم الاعتراف بالقصة القصيرة كجنس أدبي قائم بذاته له خصوصياته ومميزاته إلا بعد لَأي، وذلك لسطوة الشعر وانتشاره في الأوساط الأدبية العربية بشكل كبير. كما أن القصة القصيرة كانت مرصودة فقط للتلهي وقتل الوقت، إذ عُدَّ كاتبها متطفلا على دوائر الأدب . ورغم أن الأدب العربي كان زاخرا بأنواع أدبية يمكن تصنيفها ولو تعسفا تحت مظلة القصة، كالمقامات والحكايات الخرافية؛ إلا أن ظهورها في شكلها الحديث عرف تأخرا كبيرا.
اختلفت الآراء النقدية حول أول قصة قصيرة ظهرت في الأدب العربي، فهناك من يقول إنها قصة محمد تيمور "في القطار"، التي نشرت في جريدة السفور سنة 1917، وهناك من يؤكد على أنها قصة "سنتها الجديدة" لميخائيل نعيمة التي نشرت سنة 1914 .
أما في المغرب فقد تأخر ظهور القصة القصيرة إلى غاية ثلاثينات القرن العشرين، وذلك راجع إلى تأخر استقدام المطبعة وبداية اشتغال الصحافة. فقد كانت أول مطبعة دخلت التراب الوطني هي مطبعة الحاج إدريس ابن الوزير محمد بن إدريس العمري، التي استقدمها من فرنسا سنة 1889. وقد ساهمت الصحافة التي ظهرت أول مرة سنة 1889، في تطوير الأجناس النثرية وتخليصها من تكلفها، فأصبحت أكثر سلاسة بسبب ارتباطها بالواقع .
محاولة تعريف
رغم أن الكثير من النقاد حاولوا تعريف القصة القصيرة، إلا أن هذه الأخيرة دائما تنفلت من هذه التعريفات، وكأنها قبسة ماء ما إن نحاول الإمساك بها بين أيدينا حتى تسيح من أصابعنا. وبدورنا حاولنا جمع بعض التعريفات التي ارتأينا أنها تميط اللثام وتزيل الغبار عن هذا الجنس الأدبي الوعر.
أ) القصة القصيرة "سرد مكتوب أو شفوي، يدور حول أحداث محدودة [وهي] ممارسة فنية محدودة في الزمان والفضاء والكتابة ".
ب) وهي أيضا "فن قولي أو كتابي يقوم على الحدث، ويتخلله وصف يطول أو يقصر، وقد يشوبه حوار أو لا يشوبه، ويبرز فيه شخصية أو أكثر، محورية أو ثانوية، تنهض بالحدث أو ينهض بها الحدث ".
في هذين التعريفين تشترك القصة القصيرة مع الرواية والومضة وباقي الأجناس القصصية في الخصائص العامة للحكي والقص، في حين أنها تتميز عنها وتتفرد بخصائص نوعية.
ت) القصة القصيرة "نص أدبي يصور شخصية أو أكثر، تمر بموقف (قصصي) وتتحرك على خلفية محددة نسميها (البيئة القصصية) ".
احتفظ هذا التعريف أيضا بالخصائص المشتركة بين جميع أجناس القص، إلا أنه ركز على نوع محدد من القصة القصيرة وهي قصة الشخصية التي تتبع أحوال شخصية معينة على نحو يشبه السيرة .
ث) "القصة القصيرة/ الأقصوصة هما مصطلحان لنوع أدبي واحد ينبغي أن يقوم على أقل ما يمكن من الأحداث/ حدث واحد يتنامى عبر شخصيات محدودة أو شخصية واحدة حاسمة، وفي إطار محدود من الزمان والمكان ".
ج) بينما يرى الكاتب والمؤرخ الإنجليزي هربرت جورج ويلز (1866-1947) أن: "القصة القصيرة هي حكاية تجمع بين الحقيقة والخيال ويمكن قراءتها في مدة تتراوح بين ربع ساعة وثلاث أرباع الساعة ".
يحاول هذان التعريفان إيراد بعض الخصائص المميزة للقصة القصيرة كمحدودية الزمان والمكان والشخصيات والأحداث، وحتى وقت القراءة بالنسبة للمتلقي. فالأقصوصة أن تظل في الحدود الدنيا من ناحية الزمان والمكان والشخصيات، وألا تتم قراءتها في أكثر من جلسة لا تتجاوز الساعة الواحدة.
يمكن القول إن القصة القصيرة نص أدبي حكائي قصير يقوم على التخييل وتكثيف اللغة، حيث يقل الوصف ويتكثف الحدث في زمن محدود . فحجمها الصغير ولغتها السهلة ساعدت كثيرا في انتشارها وتطورها المستمر . لذلك نجدها في الوقت الراهن تستلهم من تقنيات السينما والمسرح (من مونطاج ومشهد) والرسائل والحكايات الشعبية والغرائبية، كما ألغت الفواصل بين الذات الكاتبة والكتابة .
ولازالت القصة القصيرة تطرق أبوابا جديدة تجريبية، لم يطرقها غيرها من الأجناس الأدبية. كما أنها لازالت تخضع للتكثيف والتقزيم أكثر وأكثر، إلى أن وصلت إلى القصة القصيرة جدا في حدود جملة واحدة. ومع التطور الهائل في وسائل وأسناد التعبير الأدبي التي اختلطت بوسائل التواصل الاجتماعي، ومع عزوف الناس ومللهم من القراءات المطولة، ربما سيأتي علينا زمن نرى فيه قصة من كلمتين فقط.