الرغبة في البقاء على قيد الحياة محرك أساسيّ لجميع أنشطة الكائنات الحية، من أبسطها إلى أكثرها تعقيدًا، ولهذه الرغبة الملحّة سلوكيات فطرية يتمثل أوّلها في الحصول على الغذاء ومدافعة الاخطار. السلوكان قاسم مشترك بين جميع أنواع المخلوقات، ويتجسدان في الخلايا، مثل خلايا الدم البيضاء أو الكائنات وحيدة الخلية مثل الأميبا، بطريقة مميزة لطالما أثارت فضول العلماء ومحبي المعرفة .
البلعمة عملية حيويّة سلط عليها الضوء في ثمانينات القرن الماضي بواسطة العالم إيلي ميتشينكوف الذي حاز جائزة نوبل في الطب تقديرًا له على اكتشاف دور هذه العملية في جهاز المناعة. بينما كان أول وصف غير مدرج لها بواسطة عالم الأمراض كرانيد سلافجانسكي عام 1860. وتعرّف البلعمة باستيعاب او ابتلاع خلايا أو جزيئات بواسطة خلايا أخرى، وقد تكون هذه العملية دفاعية كما في الكائنات عديدة الخلايا والأصناف الحيوانية المتقدمة التي تقوم بابتلاع الخلايا المناعية للبكتيريا والأجسام الغريبة التي تهاجمها، أو لمجرد التغذية كما يحدث في الكائنات وحيدة الخلية حيث تلتف حول طعامها لتبتلعه، سواء كان طعامها بكتيريا أوخلايا حيّة أخرى .
في الإنسان والفقاريات بشكل عام فإن أكثر الخلايا فعالية في البلعمة هما نوعان من خلايا الدم البيضاء؛ الخلايا البلعمية (خلايا دفاعية كبيرة) والخلايا العدلة (خلايا دم بيضاء تحتوي على حبيبات). تتواجد الخلايا البلعمية في الإنسان بشكلٍ خاصّ في الرئتين والكبد والطحال والعقد الليمفاوية، وتكون وظيفتها الرئيسية تنظيف وتنقية المجاري الهوائية والدم والسائل الليمفاوي من البكتيريا والأجسام الغريبة عن طريق ابتلاعها وتحليلها بواسطة الانزيمات. بينما العدلات تحمل بواسطة الدم الى أماكن الالتهاب حيث تعبر هذه الخلايا جدار الوعاء الدموي إلى النسيج الملتهب، ولها دور أساسي في مكافحة الأمراض عن طريق بلعمة مسببات الالتهاب .
ونتساءل؛ كيف لهذه الخلايا معرفة الطريق إلى أهدافها؟
كلا النوعين من خلايا الدم البيضاء يتوجهان لمناطق الالتهاب ويتعرفان عليها عن طريق مواد تفرزها البكتيريا والانسجة الملتهبة، او عن طريق تفاعل كيميائي بين البكنيريا والبروتينات في مصل الدم، وعندما تصل لوجهتها تلتصق بالشيء الذي تريد بلعنته، سواء كان بكتيريا أو أي جسم غريب آخر.
بعض انواع البكتيريا تكون عملية بلعمتها أصعب من الانواع الاخرى لوجود غشاء يحيط بها ويمنع الخلايا المناعية من الالتصاق، وهنا يبرز دور الاجسام المضادة التي تحارب هذه النوع من البكتيريا وتساعد على انهاء المهمة.
سرعة عملية البلعمة تختلف حسب حجم الجزيء الذي تم ابتلاعه. في البكتيريا والجزيئات الصغيرة يتم الامر بسرعة كبيرة، بينما الانسجة والمستعمرات البكتيرية فإنها تحتاج وقتا أطول. تلتف الخلية التي تقوم بالبلعمة حول هدفها حتى تحيطه بالكامل بغشاء ومن ثم تبدأ عملية الهضم عن طريق الانزيمات الهاضمة التي تفرزها الخلية البلعمية، وناتج الهضم المحاط بالغشاء يسمى لايزوسوم ويتم استخدام هذه البقايا لبناء جزيئات أكبر تحتاجها خلايا الجسم الحيّ .
في النهاية إن العمليات الحيويّة على المستوى الدقيق ما هي إلا انعكاسات للعالم الذي نعيش فيه، والنظر لهذا العمليات بطريقة نسبية قد يجعل لها معاني مختلفة. قد يرى البعض العملية على انها احتضان لما نحب او دفن لما نكره، وقد نرى فيها جزءا من النظرية الميكافيلية بوصفها مثالا على جملة الغاية تبرر الوسيلة، فالخلية التي تقوم بهذه العملية سواء للحصول على غذائها أو للدفاع عن نفسها قد تسلب الحياة من خلية أخرى أو كائن آخر في صراع البقاء.
المرجع :https://www.britannica.com/science/phagocytosis?fbclid=IwAR2HTtVaDq8Fhiqwl6LwrrWMJL4S9DyOQxZxI3Vei85uQhxaP-xT2_S9pRo