يقف رجل في مكتب رئيس التحرير ويعلن استقالته، والسبب المفاجئ كما صاح به "على أحدهم أن يضع حدا لهذه الفاشية". كان ذلك الصحفي هو جورج اورويل، والفاشية التي يتحدث عنها كانت سلطة الجنرال فرانكو في اسبانيا، وقد شعر الرجل بإحساس عارم بالواجب، أجبره على المشاركة في الحرب الأهلية، ليوقف شلال الدم كما اعتقد، رغم أنه كان أنحف من مكنسة وأطول من نخلة، ولم تكن لديه المؤهلات الجسدية ليخوض معركة أو أن يحمل السلاح، لكنه كان مثاليا لدرجة غريبة، وشعوره الأخلاقي تجاه القضايا كان غالبا لكل شيء سواه. وعليه ارتحل من المملكة المتحدة الى اسبانيا، وشارك في الحرب، وخبرها وعرف فيها الدم والموت والكذب، الذي كانت الحرب هذه خصوصا تنتجه كما تنتج الجثث والقمل، لكن اقامته فيها لم تطل، لا لخوف منه او قصور عن القيام بالواجب، ولكن لأنه في أحد الأيام التي كان فيها متحصنا في أحد الخنادق، ومطلا برأسه منه، أصابته رصاصة قناص في الحلق تماما، وأخطأت الشريان السباتي بمليمتر واحد.
ليس هناك سبب أقوى من ذلك ليدفعه للعودة الى بلاده والانشغال بالكتابة عن الحرب والسلطة وعالمنا الحديث، عالم 1984. وهو عالم تملك فيه السلطة الانسان وتستعبده وتحيط به وتعد عليه أنفاسه. عالم تخيله أكثر مما عاشه اورويل، لكن خياله كان واسعا وصائبا الى حدود مجنونة، تكاد تكون مطابقة لما عاشه الناس بعده. ورغم أن الرجل حضر الحرب العالمية الثانية، ست سنوات، ودخل الملاجئ وعاش ايام القصف النازي، وسمع خطابات هتلر وستالين، وشاهد الجموع الغفيرة تسلم قيادها للاثنين، وتتبعهم مخدرة بلا ارادة، لكن الشهور الستة التي قضاها في اسبانيا كانت أعظم أثرا عليه، وظلت تشغله حتى وفاته بالسل.
روايته جاءت بإيحاء من الحرب، كتب عن جميع الدروس التي لم يتعلمها العالم، خاصة تلك المتعلقة بهشاشة الحقيقة في وجه السلطة الغاشمة، حتى صارت روايته مرآة لكل عصر، فبعد وفاته بشهور ظهرت المكارثية، ومن بعدها بدأ سباق التسلح المحموم بين القوتين الأكبر في العالم، وبعدها تتابع ظهور الانظمة والسلطات الدكتاتورية في الكرة الارضية، ونمت وتكاثرت مثل البكتيريا، لتكذب وتراقب، مثلما كان يحصل في الرواية.
برز جدال رهيب واستمر حتى يومنا هذا عمن كان يقصد اورويل في روايته، الشيوعية قالت انه يقصد العالم الرأسمالي الذي يسلع الانسان ويشيئه ويحوله للاستهلاك ويفقده المعنى، بينما قالت الرأسمالية أنه لم يكن يقصد غير روسيا السوفييتية والغولاغ والقمع السياسي والطحن الاقتصادي، والعالم الذي يتأله فيه الحاكم على الناس، ويختار لهم مصائرهم، بشخطة قلم، فيكتب لبعضهم الحياة ويحكم على بقيتهم بالموت. برأيي المتواضع، فقد كتب عن الانسان بشكل عام، الذي يقبل الإهانة والكذب والقمع.
عند كل مفصل تاريخي او حدث، كانت مبيعاتها تزيد، كأنها مرجع تاريخي، رغم أنها من محض خيال الكاتب، وقد كان اخر تلك الاحداث في عهد ادارة دونالد ترامب، بعد أن صرحت واحدة من مستشاريه بأن الرئيس لا يكذب، لكنه يقول "حقائق بديلة" أو ما سمته بالانجليزية Alternative Truths وهو ما دعا اورويل ليتقلب في قبره.
على الرغم من أن الرجل لم يعش في ظل نظام شمولي مثل حنة ارندت، التي كتبت عن أصل الشمولية، لكنه توصل كما توصلت هي ان الشمولية نقطة تقاطع غير مسبوقة بين الايدولوجيا والبيروقراطية والتكنولوجيا والارهاب.
أهم ما وجدت في الرواية، وأشعر أنه قريب جدا من الواقع، هو صراع بطلها للحفاظ على خصوصيته، في دولة الرقابة وانتهاك المحرمات، بينما وصلنا اليوم الى ما هو أسوأ من سلطة تفرض رقابتها على العالم، حيث صرنا الى عالم جيستوبي يتنافس الناس على وسائل التواصل الاجتماعي في مشاركة أدق تفاصيل حياتهم، بل لا يعرضون غيرها، من صراعات عائلية ومقالب ولحظات رومانسية خاصة، وغير ذلك من يوميات مملة، حتى صارت في عالم اليوم بضاعة رائجة، فلا تكاد تجد تطبيقا واحدا على وسائل التواصل، يخلو من مئات ان لم يكن الاف الحسابات المحلية والعربية والعالمية، التي تعرض حياة اصحابها بتفاصيلها الدقيقة، بمقابل زهيد مهما علا ثمنه أمام قيمة كالخصوصية، عالم كان اورويل ليجن لو حضره، وهو الذي عادى التلفاز اول ما انتشر في بريطانيا، بصفته أداة دعاية، وغسل أدمغة، بينما اليوم صار المواطن العادي هو المعروض والسلعة، وحياته صارت وسيلة يستخدمها في طلب وتحصيل الشهرة.
أختم هنا بمقتطف من اورويل قال فيه:
"مع مرور الوقت وتراكم الأهوال، يبدو أن العقل يفرز نوعا من الجهل ليحمي نفسه، وهو ما يتطلب صدمة أقوى في كل مرة لاختراقه، تماما مثلما يكتسب الجسم مناعة من دواء ويتطلب جرعات أكبر وأكبر لاحداث تلك الصدمة العاتية التي لا سبيل للتحصن منها".