يقدم المخرج الاوكراني سيرجي لوزنيتسا بفيلمه الروائي الطويل الأول المعنون "بهجتي" انتاج العام 2010، مشهدية سينمائية بديعة، يقرأ فيها تحولات سياسية وتاريخية واجتماعية وثقافية، تكاد تعصف ببيئته قبيل ان تداهمها الاحداث العصيبة حاليا.
اعتبر "بهجتي" نبوءة سمعية بصرية لوقائع الحرب الدائرة الآن بين روسيا واوكرانيا، وهو العمل الذي انجزه لوزنتسيا العام 2010، عندما اتخذ من منطقة واقعة شرق اوكرانيا على حدود روسيا فضاءا رحبا لتمرير رؤى نقدية معاصرة، مستعيدا لحظات من اتون الحرب العالمية الثانية عندما كانت روسيا واوكرانيا ضمن الاتحاد السوفييتي السابق.
عبر اسلوبية افلام الطريق، تسير احداث فيلم "بهجتي"، وفيه يتتبع رحلة سائق شاحنة محملة باكياس الدقيق، اضطر تغيير مسار وجهة رحلته تلافيا لممارسات نقطة تفتيش للشرطة هي اشبه بوكر لفساد مالي واخلاقي يجري فيها تقاضي مبالغ نقدية من العابرين ومساوماتهم على امور تتنافى مع القانون والاخلاق.
ويضطر سائق الشاحنة لحظة فراره من الشرطة الى تحميل رجل عجوز مشرد كان من بين الضباط المحاربين ضد النازية، والذي ياخذ بسرد كثير من القصص والاحداث التي واجهها خلال سنوات الحرب العالمية ، وما لحقه من شطط وظلم اضطرته لان يهرب من الجبهة ويختفي عن اسرته كل هذه السنوات، وطوال مسيرة السائق يصادف نماذج انسانية لافراد من الجنسين وقد كبلهم الفقر والجوع والمرض والتهميش، وهو ما عرضه الى صدامات قاهرة، ليكتشف ان بعض هذه النماذج رغم تعاطفه في البداية معهم، ما هم الا قساة لا يتوانى بعضهم عن ارتكاب جرائم وحشية بحق اناس مسالمين ولطفاء.
العنف والفساد سمات رئيسة بهذا العمل السينمائي، حيث يمكن تسمية أي شخص بالفاشي من أجل إضفاء الشرعية على جميع أنواع الجرائم التي ترتكب طيلة احداث الفيلم، خاصة عندما صور الفيلم بحذر جنديين سوفيتيين ابان الحرب العالمية الثانية يتبعان وحدة مهزومة لحظة دخولهم احد المنازل يعيش فيه مدرس أرمل مع ابنه الصغير، المدرس لطيف مع الجنود ويوفر لهم الطعام والمأوى الذين هم في أمس الحاجة إليه، لكن الجنود يعتبرون مسالمته وعدم مبالاته تجاه الغزاة الألمان خيانة، فيقتلونه ويسرقون المنزل ويستمرون في طريقهم ، تاركين الطفل لأجهزته الخاصة.
وينهج المخرج بالفيلم اسلوبية الانغماس بالبيئة مصورا الوانا من تضاريس البيئة الطبيعية ومكوناتها من اشجار وامطار وبيوتات واسواق، يقدمها للمتلقي بعدسة كاميرا تسجيلية تحفر في دواخل انسانية نزعت عنها سمات الرحمة والتسامح، كانها في جلبة دائمة من الحركة الآتية من فظائع كانها الجحيم، تتنقل فيها وتتبدل فيها الشخصيات والمواقف برسم درامي متين البعض منها آسر وفتان، مثل مشهد تتجول فيه الكاميرا في القطار لحظة انزال الضابط العائد لاسرته من الجبهة المشتعلة من قبل جنود واحتجاز اوراقه وسرقة محفظته لينتهي به الامر بلا هوية او ملامح، وكان الحرب ابتلعته مع غيره من الضحايا، وايضا هناك مشهد لقاء سائق الحافلة مع فتاة ليل قاصر، يشفق عليها ويعطيها بعض المال والطعام ، إلا أنها تسيء إليه وتهينه وتغادر.
كما ويزخر العمل بتلك التأثيرات السيريالية والرؤى والافكار البليغة التي تتميز بها مناظر المنفعة المادية والعنف الذي يتشكل من قبضة طغاة متسلطين ودهماء وغوغاء يعصف بدواخلهم شتى الاحاسيس والانفعالات، ففي واحد من ابرز مشاهد العمل، أضاع السائق الطريق ليلا وقرر المبيت في حقل مزرعة حتى الفجر، ليقترب منه ثلاثة من السكان المحليين وحاولوا سرقة الشاحنة ، لكنه أوقفهم، ثم قاموا بصرف انتباهه، حيث أخبروه كيف أن أحد أصدقائهم أخرس لأن شخصًا ما قتل والده أمامه عندما كان طفلاً، لينهض احدهم فجأة بضرب السائق على رأسه بعصا ويفقد وعيه، كل ذلك يسري بحرفية سردية بصرية صارمة مثيرة للإعجاب، كأن كاميرا المخرج في حالة توثيق لوقائع من الفساد الاجتماعي والسياسي في رؤية مجبولة بالثراء والدهشة والافتتان.