تتعرَّضُ الطفولَةُ العربيَّة يوميًّا في زمنِ وسائطِ التواصلِ الاجتماعيِّ لموادٍ فكريَّةٍ وسلوكيَّة وتربويَّة متنوعة لكنَّ الإشكالَ في المسألةِ هو أنَّ أغلبَ تلكَ الرسائِل ترميِّ إلى استهدافِ الطفلِ نَفسيًّا وجسديًّا من خِلالِ إرغامهِ عَلَى إدمانِ نفسِ المؤثِّراتِ الصوتيَّة والبرامِج الترفيهيَّة والأفلام الكرتونيَّة لِيغتديِّ أشبَهَ بالآلةِ المنتزعةِ من الإرادةِ حيثُ ينزعُ تلقائيًا لتلكَ المؤثِّراتِ دونَ أن يعيَّ ما حولهُ من أحداث، لذلكَ وتحتَ تأثيرِ هذهِ النشوةِ الإلكترونيَّةِ تراهُ لا يعبَأ بكلامِ الأبِ والأمِّ ولا يستَرشِدُ بنصائِحهما، بالإضَافةِ إلى هذَا فإنَّه ومع تكرارِ العمليَّة القائِمةِ على ثنائيَّةِ المثيرِ والاستجابة فإنَّ الطفلَ سيفقدِ مهارةَ التواصلِ اللغويِّ والإشاريِّ في وسطهِ الاجتماعيِّ.
الأمرُ الذي سيشكِّلُ هَاجسًا للأولياءِ في المُستقبَلِ فهم يخشونَ أن يتحوَّلَ طفلُهم إلى كائنٍ انعزاليِّ، يُهمِلُ واقِعهُ ويخضعُ بكلِّ أحاسيسِهِ ووجدانِهِ لعالمٍ افتراضيِّ يسلبُ منهُ حريتَهُ وكفاءتَهُ اللغويَّة التي تنبنيِّ على تكثيفِ المحاورةِ واستخدامِ القوالبِ البلاغيَّة والأنماطِ النصيَّةِ لإعانتِهِ عَلى تنشيطِ مخيالهِ بإنشاءِ الصُّورِ والسلاسلِ الكلاميَّةِ المفيدةِ التيِّ بِها يُبلِّغُ على حاجياتِهِ اليوميَّةِ.
وللتَّخفيفِ من وطأةِ هذهِ المعضلةِ التربويَّةِ والسلوكيَّةِ وجبَ على الأولياءِ والمعلِّمينِ إقامَةَ مجالسَ سرديَّةِ تُحاكيِّ عاداتِ الأسلافِ والأجدادِ حيثُ يقومُ المعلم بوظيفةِ الرّاويِّ الذي يتوسط المجموعةِ هذهِ الأخيرةِ تكون عبارةِ عن عيِّنةِ من الأطفالِ المتقاربينِ في السنِّ، والمتكافئينِ في القُدراتِ الإدراكيَّة ومن ثمَّ يُشرعُ في السَّردُ ولنداوم العمليَّة في بدايةِ كلِّ أُسبوعٍ وهكذَا نكونُ قد حققنَا الكثيرَ من الفوائدِ البيداغوجيَّة والتربويَّة:
- تأهيلُ الطفلُ معرفيًّا ونفسيًّا ليُصبِحَ قادرًا على الفِكاكِ من قوقعةِ الهاتِفِ الذَّكيِّ.
- تَمرينُ الطفلُ على تطويرِ مهارةِ الاِستِماع وتحفيزهِ لتفعِيلِ قدراتهِ العلميَّةِ في الملاحظةِ، والتَّعقيبِ على بعضِ المحطاتِ السرديَّةِ وإبداءِ مجموعَةً من الأسئلةِ حولَهَا.
- تَرقيةُ ملكتهِ في القِراءةِ والكتابةِ ليُصبِحَ قادِرًا على تقييدِ بعضِ الصورِ المتداولةِ في القصص المرويَّةِ بواسِطَةِ تَثبِيتِها في دفتَرِ ملاحَظَاتِهِ.
- تَخصيبُ خيالهِ بالقصصِ العجائبيَّةِ التي تختزنُ بينَ حروفِهَا الفوائدَ والمغازيِّ التربويَّة والعلميّة وهَذَا حتَّى يقتدِرَ عَلَى محاكاتِها وتقليدِ أسلوبِها وبالتاليِّ قد نضمنُ ميلادَ كاتبٍ مبدع سيبزِغُ طيفُهُ في المستقبَلِ.
ولا منَاصَةَ أن تَكونَ القصَّة مدرجًا يسيرُ عليهِ العُظماءِ في صِباهم لبلوغِ أهدافِهم وتحقيقِ أَمانيهم، فهذَا عميدُ الأَدبِ العربيُّ طهَ حسينُ يَعترفُ في كتابهِ " الأيام" بمكانةِ القصَّةِ كمؤسِّس فنيِّ للعباقرةِ والنوابِغ إذ يرويِّ في إحدَى صفحاتِهِ عشقَ أقرانهِ من الصِّبيَةِ لبائعِ الكُتبِ الذي يأتيهم كلَّ أسبوعٍ بأطايبِ القصص التي تُروىَ على لِسانِ شهرزادِ في ألفِ ليلةٍ وليلةِ: "وكانَ من القصصِ التي تَكثُرُ في أيديِّ الصبيانِ يَحمِلُهَا إليَهم بَاعَةُ الكُتُبِ قصَّةٌ اُقتُطِعَت من ألفِ ليلةٍ وليلةِ وتُعرفُ بقصَّةِ الحسنِ البصريِّ"
إنَّ الإمعانِ في هذهِ الشهادةِ التي سَاقَها عميدُ الأدبِ قد تجرُّ المتخصِّصينِ في الحقلِ التربويِّ للعمل أكثر عسَى أن تَستَحيلَ هذهِ الشهادةِ في يومٍ مَا إجراءً تربويًّا ناجِعًا عبرهُ يُمكنُ تأسيسَ استراتيجية شموليَّة تقَعُ علَى عاتِقِها الإلمامَ بقضايَا الطفلِ السرديَّة والأدبيَّة ومحاولةِ إشباعِ فضولهِ المعرفيِّ بتأليفِ القصص التي تتوافقُ معَ متطلَّباته المعرفيَّةِ والثقافيَّةِ وهكذا نضمنُ سلامةَ الطفلِ من العِللِ والأمراضِ النفسيَّةِ والجسديَّة التي سبَّبَهَا إدمانُ الهَاتِفُ.
لعلَ أولى الخطواتِ التي نتسانَدُ إليها لتحقيقِ أرضيَّةٍ صالحةٍ ترفدُ هذا المشروع التربويِّ هو العودةِ لقصص الحيوانِ وإحياءِ تراثِها الممتد الضاربِ في جذورِ كلِّ الحضاراتِ العظيمةِ: من مِثلِ قصصِ العبدِ الأسودِ إيسوبِ التي كانت تروى في شوارعِ أثينَا وكانت تستجلِبُ أنظَارَ المارةِ وتسلُبَ اهتِماماتِهم ، فبالرغمِ من طابِعهَا الخُرافيِّ إلا أنَّها تحملُ الدروسَ الكفيلةَ بتقويمِ تجاربِنَا ونحنُ نجابِه معاركَ الحياةِ كقصَّةِ الثعلبِ وعناقيدِ العنبِ التي اِكتسحَت أغلبَ الآدابِ العالميَّة وهذَا نظيرَ حسِّها الأخلاقيِّ وتدفُّقِها بالمعانيِّ والحكمِ الرَّشيدةِ، تقول القصَّةُ:
"إنَّ ثَعلبًا أَرادَ الحصولَ على عنقودٍ من العنبِ متدلٍّ فوقَ رأسِهِ فحاولَ يائسًا الوصولَ إليهِ لكنَّهُ أَخفَقَ المرَّة تلوى المرَّة مما اضطرَّرهُ في النِهايةِ إلى أن يتخلَّى عن رغبتِهِ ويقول إنَّهُ حامض".
ولو دأبَ المعلم على روايةِ هذهِ القصَّةِ علَى مسامِعِ تلاميذهِ لتركَ فيهم أثرًا تَعليميًّا بالِغَ الأهميَّة وهو التّحذيرُ من التَّواصلِ معَ الصَّديقِ ذي الطِّباعِ السيِّئةِ والسلوكيَّاتِ المُخادِعةِ فحيثُما يفشُل في الوصولِ إلى تحقيقِ علاماتِ جيدةِ في دراستِهِ ويوشَكَ عَلَى الرسوبِ سيقولُ لَكَ بكلِّ خُبثٍ: ماذَا ستفعلُ بدراستِكَ هذهِ بالمُستقبلِ، أرأيتُ أبناء الحيِّ فجلُّهم يحملونَ شهادةَ البكالوريوس لكنَّهم يعانونَ البِطالَةِ والفاقَةَ الشَّديدةِ.
فمضمونَ القصَّةِ يحملُ طابِعًا تواصليًّا قوامهُ تبليغِ الطفلِ بالأثرِ السلبيِّ للصَّداقاتِ المغشوشةِ التي تُكرِّسُ فيهِ العاداتِ القبيحةِ التي يتوارثُها من تلكَ الصَّداقةِ دونَما أن يشعُر كتبرير الإخفاقِ والبرمَجةِ علَى الفَشلِ.
والاستعانةِ بالحيوانِات كشخوصٍ خَيَاليَّة يؤدونَ مختلفَ الأدوار الدراميَّة في متنِ القصَّةِ أمرٌ مستحسنٌ لنفسيَّةِ الطفلِ فالغريبُ والإدهاشيِّ يُغريِّ الطفلِ للتَّواصلِ مع الحدثِ واقتِصاصِ فوائِدهِ التعليميَّةِ، كما باستطاعَته عبرَ ثنايَا
القَصصِ المرويَّةِ تشخيصَ بعضَ الطباعِ التيِّ تحملُها تلكَ الحيواناتِ واسقاطِها في واقِعهِ، فالثعلبُ رمزٌ للمكرِ والخديعةِ، والحمارِ رمزٌ للغباءِ والبلادةِ، والأسدُ رمزٌ للبطشِ والقوَّةِ، والديكُ رمزُ للفصَاحةِ، وهكذا دواليكَ.
وقد لاقَت قصص كليلةُ ودمنةَ لابن المقفَّع إقبالا منقطعَ النظيرِ في الثقافةِ العربيَّةِ لدرجةِ أنَّ طابِعهَا التشويقيِّ بمزجِها بينَ الخرافةِ والفكاهةِ والجدِّ جعلَ الأدباءِ يتهافتون عليهَا أَملاً في تقليدِ أسلوبِهَا والنَهلِ من مغازِيهَا حتَّى سطعَ نجمُهَا ووصلت للعالميَّة فترجمت لمختلفِ الألسنِ وتداولَها الأدبُ العالميِّ في شكلِ اقتِباساتِ وشذراتٍ فنيَّة أضفَت عليهِ أبعادًا إنسانيَّة ومنحتهُ رواجًا مستديمًا بفعلِ هذَا التَّداخلِ الإبداعيِّ.
ومن اللَّطافةِ بما كانَ تَرويجِ قصص ابنِ المقفَّع في تلكَ الفضاءاتِ الحكواتيَّةِ المُصطَنَعةِ فهيَ تهبُ للطفلِ ملكةَ لغويَّة فائِقةَ الصِّناعة بسبب احتوائِهَا على معجمٍ متنوعٍ يُزاوجُ بين المُعربِ والدَّخيلِ والغريبِ والفَصيحِ، وكلمَا اقتَدرَ الطفلُ في هذهِ الحَالةِ على الفوزِ بتلكَ الألفاظِ وإدراجِها في ذَاكرتِهِ سَتزدَادُ فعاليتَهُ التواصليَّة بل وتتعاظَمُ عارضتهُ البيانيَّة وقوتَهُ الحجاجيَّة في الذبِّ عنِ أفكارهِ والدفاعِ عن آرائِهِ الفكريَّةِ ما يُساعدُ على إنشاءِ طفلٍ بكفاءاتِ عاليَّة، وبشخصيَّة كاريزميَّة بالمستقبلِ لأنَّ اللسانَ الفصيحَ يجعَلُ غيرَكَ يهابُكَ ويستعظِمُ شأنَكَ.
وفي هذَا السياقُ أَمكنَ لَنا استحضارُ قصَّةِ الناسِكِ وابنِ عرسِ وما الذي جرَى بالنهايَةِ، وماهي الوصيَّةِ التي نستنتجُهَا من الحدثِ السَّرديِّ وكيفَ لَها أن تدفعَ الطفَلَ للتقيُّدِ بموعظَتِهَا عسَى أن تغتديَ بوصَلةً تعليميَّةً تعينَهُ على فهمِ أسرار الحياةِ بمفارقاتِها التي لا تنتهيِّ.
تتحدَّثٌ القصَّةِ عن ناسِكٍ زاهدٍ ابتهجَ كثيرًا بميلادٍ طفلهِ الأوَّلِ بعدَ صبرٍ طويلِ، ومرَّةً أرادَت زوجتُهُ أن تغتَسلَ وتتطهَّرَ، فطلبت منهُ أن يقعدَ عند الرضيعِ لحراستهِ، لكنَّ رسولَ الملكِ أتَى ليأخذَ النَّاسِكَ لأداءِ وظيفةٍ عاجلةِ بالقصرِ، فذهبَ النَّاسِكُ لم يُخلِّف مع ابنِهِ أحدًا، وكانَ بالبيتِ جحرٌ خرجَ منهُ ثعبانٌ كبيرُ همَّ بِلدغِ الرضيعِ ، فاعترضَهُ ابنُ عرس وقاتلَهُ حتَّى صرعهُ وأنقذَ بذلكَ الرَّضِيع، وحينَ رجعَ الناسِكَ إلى منزلَهُ استقبلهُ ابن عرس وهو ملطَّخُ بالدماءِ ليبشِّرهُ بما صنعَ، لكن النَّاسِكَ استعجلَ الأمرَ ولم يتأنَّ وظنَّ أن ابن عرس آذى صبيَّهُ فانهالَ عليهِ بِالعَصَا فقَتَلهُ، ثمَّ ولجَ النَّاسِكُ غرفةَ بيتِهِ فرأى الثعبانَ مقتولا فبكَى وندمَ على استعجالِهِ وقتلهِ لابن عرسٍ دون أن يتحرَّى وطفقَ يقولُ : ليتَ هذَا الغُلام لم يولد، ولم أصِر إلى هذَا الإثمِ والغدر ثمَّ دخلت عليهِ زوجَتهُ فأَخبَرها بالأمر، فقالت لهُ: هَذَا جزاءُ من يعمل بالعجلةِ ولم يتثبَّت.
وآنَ للطِّفلِ بعدَ استيعابِ حدودَ القصَّةِ برمزيَّتِها أن يظفَر بالمواعظِ التي نعدِّدُها كالآتيِّ:
- لا تحكُم عَلَى الكِتَابِ من غلافِهِ، ولا تتسرَّع في الحكمِ على الناسِ من مظَاهِرهم.
- في التَّأنيِّ السَّلامةِ وفي العجلةِ النَّدامةِ، والتَّسرعُ هفوةُ كلِّ غَضوبٍ، والتأنِّ مزيَّةُ كلِّ حكيم.
إنَّ هذهِ المواعظِ المستقاةِ من القصَّةِ تُتيحُ للطِّفلِ فهم الغايةِ من التَّواصلِ الإنسانيِّ وآليةِ نجاحِهِ وكذَا فهمُ مُتطلَّباتهِ الدَّاعيةِ لسيرُورتهِ ضمنَ مجالٍ توافقيِّ يقومُ على فهمِ الآخر وعدمِ التَّسرعِ بتقييمهِ حتَّى تتَّضِحَ شخصيتهُ التامةِ ونَستوفيِّ فَهمَ طباعهِ وأهوائهِ بموضوعيَّةٍ دُونَ التَّمذهبِ بمذهبِ الناسِكَ فنظلِمَهُ.
ولإنجازٍ تماثلٍ سرديِّ يستجمعُ بينَ دفتيِّهِ كلَّ ما كتبَ في هذا الفنِ، حيقَ للمعلِّمَ أن يقدِّم لتلامذتِهِ قصص لافونتينِ الأديبِ الفرنسيِّ الذي اختصَّ بتوريدِ حكايا الحيوانِ وفقَ أسلوبٍ بارعٍ يقومُ على الإفضاءِ والمباشرةِ وتزدادُ العمليَّة التراسليَّة متعةً حينَ نعلمُ أنَّ مترجمَ النسخةِ الفرنسيَّةِ للعربيَّةِ هو الأديب والروائيِّ الفلسطينيِّ جبرا إبراهيمِ جبرا، فالترجمَةُ فعل تثاقفيِّ حيويِّ عبرهُ ننالُ عيونَ الأدبِ الوافدةِ من مختلفِ شعوبِ المعمورةِ.
لعلَ الإصرارَ على تَناولِ هذهِ القصصِ من مصدرِهَا الغربيِّ رغم علمنَا بأصالةِ هذا الفنِّ في الثقافةِ العربيَّة هو الرَّغبَةُ في تَلقينِ الطفلِ لأساسيَّاتِ منهجِ المقارنةِ بينَ النُّصوص التي تلقَّاها سَابِقا ولتكن قصص ابن المقفَّع وبينَ النَّصِ الآتي إليهِ من الضِّفةِ الأخرى كقصصِ الأديبِ الفرنسيِّ لافونتينِ وهذا حتَّى يستنطقَ ببداهتِهِ أوجهَ التَّشابه والاختلاف بين النصيِّنِ، ويدركَ عمقَ التواصل بينَ العملينِ رغم الفواصل التاريخيَّة والثقافيَّة التي تفرِّقُهمَا.
وفي هذَا الصدد لا بأسَ بالمعلِّمِ أن ينتقيَ لتلاميذهِ عيِّنةً من قصص لافونتين كقصَّةِ الأسد الهَرم، تبدأ فحوى الحكايةِ حينَ يهرُم الأسدُ وتخرُّ قوَّاهُ وتسقطُ أسنانهُ ويشيبُ فروهُ، فيلجأَ مُكرهًا للعزلةِ تحتَ شجرتِهِ ويفقدَ بذلكَ سطوتَهُ وجبروتَهُ، لكنَّ المؤلمَ في القضيَّة أنَّ الحيواناتِ التي كانتَ تهابَهُ سابِقًا أصبحت تتفنَّنُ في إِهانتِهِ فقد مرَّ عليهِ الحصانُ الجموحُ فرفَسَهُ بحافرهِ وذهبَ ضَاحكًا، ثمَّ أتى الثَّعلبُ فعضَّهُ بنابِهِ، أمَّا الثورُ فنطحهُ بقرنيهِ، ومازالَ الأسدُ على تلكَ الحالةِ يئنُّ ويتوجَّعُ، حتَّى أتى الحمَارُ ليقتصَّ حقَّهُ، فَصَاحَ الأَسَدُ صيحةً ضعيفة: "كفَى لقد هزلَت"
وفي ضوءِ هذهِ المرسلةِ السَّرديَّةِ بإمكانِ الطِّفلِ أن يستَشِفَّ عمَّا وراءَها مِن دُروسٍ وعبرٍ منها أنَّ الإنسان لا ينبغيِّ عليهِ التَّفاخُرَ بِشَبابِهِ والزَّهوَ بِمتانةِ عضلاتهِ المفتولةِ فيظلِمَ من هم أقلُّ منه قوَّةَ ورتبَةً، لأنَّ الزمانَ لا يُحابيِّ أحدَا والأيامُ دولٌ فتارةَ لكَ وتارةً عليكَ، أو كما يُترجمُهَا المثَلُ الشَّائِعُ: كَمَا تُدينُ تُدانُ.
ومن خلالَ هذهِ المواعظِ يتأتَّى للطِّفل معرفةِ القوانينِ التي تؤطِّرُ التَّواصلَ مَعَ غيرهِ، حيثُ يَلينُ المعاملةَ من الشُّيوخِ والكبَارِ ويعيلُهُم على أداءِ حاجياتِهم، ويحترمَ من هُم أصَغرَ منهُ فلا يؤذينَّهم بلسانِهِ، ويوقِّر جيرانَهُ فلا يَعتديِّ عليهِم ولو بنظرةِ ازدراءٍ أو إشارةُ قبحٍ وافتراءِ، لأنَّ صُورةَ الأسدِ مَازَالَت جاثِمةً في ذاكرتِهِ، فإن أبدَى التَّطاولَ ونازعتهُ نفسهُ في التَّسلُّطِ والجورِ تذكَّرَ منظر الأسدِ وهو يئنُّ تحتَ تعذيبِ من أساءَ لهم حينَ كانَ في أَعتَى جبروتِهِ.
وعطَفا علَى قيلَ نستنتِجُ أنَّ الضرورةَ التَّعليميَّةِ تقتضيِّ إنشَاءَ نوادٍ أدبيَّة تهتمُّ بجمعِ القصص التراثيَّةِ ومن ثمَّ محاولةِ تبسيطِها حتَّى تتناسبَ معَ الطفلِ، وهذَا لترقيةِ ملكتِهِ اللغويَّة وتطويرِ مهاراتِهِ التواصليَّةِ ومساعدتِهِ على التخلُّصِ من إدمانِ الهاتِفِ، وعلاجهِ مِن السُّمومِ الفكريَّةِ التي كانَ يتلقَّاها غداةَ انكبابهِ على عالمِ النتِ المُظلم.
مكتبة البحثُ:
- لافونتين، حكَايَا الحيوانِ، ترجمة: جُبرا إبراهيم جبرَا، وزَارة الثَّقَافة والإعلام، بغداد، ط1، 1987.
- طه حسين، الأيام، مركز الأهرامِ للنَّشر والترجمةِ، ط1، 1992.
-ابن المقفَّع، كليلة ودِمنة، مكتَبة زهران، مصر، ط1