حربٌ هنا وحربٌ هناك، معاييرٌ بلا معايير، وظلمٌ يتخذُ شكلَ العدل، وأرواحٌ ودّت لو تموت ولم تستطع.
هذه الرواية تأكيدٌ على أن كُلّ ما يعانيه الإنسان طوال حياته، من أجل الحصول على السلام وبعض الحقوق المشروعة والحب!
الرواية الصارخة بالألم: الساعة الخامسة والعشرون، للكاتب الروماني “فيرجيل جيورجيو“؛ تضع بين أيدينا المجرم الذي أودى بالبشرية وحمّل الشعوب ما لا تستطيع، توثق كلَّ جُرمٍ بشاهد، وكلَّ صرخةٍ منه تُعلّق بأقدام النوارس المهاجرة.
بعد مرور أكثر من مئة عام على هذه الرواية، ما زالت تبعث الألم والقهر لكلّ من يقرأها، كأنها مدرسُ تاريخ يعيد شرح مادة الحروب العالمية وأثرها على الكائن البشريّ. وتحديدًا هنا؛ الحرب العالمية الثانية التي غيّرت ملامح العالم، وكان لدول الحلفاء والمحور النصيبَ الأكبر من الخسائر البشرية، وذلك بعد مشاركة مائة مليون شخص من أكثر ثلاثين بلد!
أترك لك عزيزي القارئ مساحة للتفكير بحجم المعاناة التي تعرض لها كُلّ من هؤلاء الجموع البشرية؛ منفردًا. وهذه الأرقام بالتأكيد ليست عشوائية بل أرواحًا بشرية.
يتحدث الكاتبُ هنا عن الظلم والاضطهاد والأسى الذي تعرّض له بطل الرواية “يوهان موريتز”، ومأساته هذه لا تعود عليه فقط بل هو رمزٌ للعديد من الذين فُقدوا بلا أثر وقُتلوا ولم يستطع أحد أن يُعلن عن رحيلهم، لأسباب أمنية تتعلق في كلِّ دولة ودين يختلف عن دين العدو.
“جورجيو” حكّاءٌ ماهر، رغم أن روايته ليست بحاجة لحكّاء، تظن لفرط الانسيابية فيها أنها تروي عن نفسها، ولم يلقنها أحدٌ ما تقول، كأنّ أوراق هذه الرواية صنعت من شجرةٍ عيان كانت هناك تتبع أثر “يوهان موريتز” في المعتقل.
إعلان
قصةٌ حبٍّ بين فلاحٍ بسيط وفتاةٍ جميلة لأب صارمٍ وقاسي القلب، يقرر الفلاح “يوهان موريتز” السفرَ إلى الولايات المتحدة الأمريكية من أجل صنع مستقبل في بلدته، وهو ما كان متعارفًا عليه في البلدة آنذاك. إلى هنا تظن أنّ هذه الرواية كليشيه، قصةُ حبٍّ تتعرض لصعوبات المجتمع والعادات.
والحقيقة أعمق من قصة حب؛ هنا تبدأ عظمة “جيورجيو”.
إن فطنة “فيرجيل” في جعل بطلِ الرواية ساذجًا بعض الشيء وبسيطًا دلالة إلى أن ما تم ممارسته في حقه كان ظالمًا من البداية. فهو لم ينتمِ لجماعات، ولم يقف في وجه الدولة، ولم يستطع أن يقول “لا” طوال حياته، وما تعرض له من اعتقالاتٍ مستمرة عارٌ على كل من يدعي أنه إنسانيّ، وأن السبب الذي آل إليه في المعتقل، خدعة ليست صحيحة ووشاية ظالمة.
تعرض “يوهان” للعذاب النفسي أكثر منه الجسدي، فتارة يعذَّب حدَّ الموت لأنه من جنسٍ قذر، هذا عندما يكون في حوزة دول المحور، وتارةً يُحترم احترامًا يؤلمه هو الذي تعوّد على أن الماشية والآلة لها احترام أكثرَ منه، وفي تلك الفترة اعتبروه بطلًا أنقذ فرنسيين وأصبح صديقهم.
جرت حوادث كثيرة أثناء الأعوام التي اُعتقل فيها “يوهان موريتز”، وفي كافة الاعتقالات لم يُعتقل لأنه هو أو لدينٍ يحملُه أو جوازِ سفر يحمله، على الدوام كان يعتقل لأمرٍ مخالف لا يشبه حقيقته. يتعرض يوهان لسلسلة من الفقدِ المتواصل، عندما يخبرُهُ الضابط أنّ زوجتَه لا تريده وقد انفصلت عنه بسبب ديانته. في تلك الأثناء يرحل عنه الكاهن “كوروغا” الذي اعتنى به طوال فترة شبابه وكان يعمل لديه و يعامله كابن له. وفي الوقت الذي رحل فيه “ترايان كوروغا” عن العالم برغبته، خسر “يوهان موريتز” آخر خيط يربطه بالواقع.
وفي مقالٍ آخر سنكتب عن “ترايان”، لا يمكن لذاك الكاتب أن نكتب عنه في سطر أو اثنين وهو صاحب العرائض الأكثر صدقًا وحقيقةً في الأدب.
يتركنا جيورجيو لفكرة أنّ المغتصبين لا منطق لهم، والمحتل أو أيًّا كان اسمه، هو سارقٌ لهُويةِ وحقِّ أفراد في العيش بسلام، وأنّ ما يقوم به العالم الآن هو مواصلة لأمر قد بدؤوه في السابق، وأن المشروعَ الذي تحقق يسمى العالم التقني.
المصطلح الذي عبّر فيه الكاتب عن حال المستقبل بعد بضع عقود، وهو ما نراه الآن في القرن الواحد والعشرين، مزيجًا من التشريد والسجن واعتقال أصحاب الرأي وتصفية ذوي الفكر من أجل مواصلةِ مشروع العالم التقني، المبني على إهمال البشر كليًا، وانتقاء نخبةٍ معينة من الجينات التابعة لديانةٍ معينة أو بلدٍ معين؛ حتى تقوم له الدول وتُهيَّأ له الدساتير.
قد يعجبك أيضًا
ابن عربي: بين الخيال والحقيقة في موت صغير | راما دحدوح
18 ديسمبر 2023
ملابس الإمبراطور المتجددة
6 ديسمبر 2023
في تلك الأعوام عاش “يوهان موريتز” بطل حكايتنا مضطهَدًا معجونًا بالمهانة والقمع داخل السجون، بين المقتنعين أنه ليس يهوديًا ومع ذلك يعذب من أجل ذلك، وبين الهنغاريين الذين يعلمون أنه رومانيٌّ ولا ينتمي لهم، وبين الذين يجيدون لغة اليديش وهو الذي لا يعرفها، فنبذوه ولم يتحدثوا معه بأيِّ لغةٍ يجيدها.
لماذا الساعة الخامسة والعشرون، لماذا ليست العشرين مثلًا؟
وفي هذا العنوان نبوءة الكاتب المتحققة في الدمار الذي سيصيب البشرية في ساعةٍ لا تنتمي للزمن، بعد نفاد كلِّ المحاولات، وبعد أن استفحل الشر والظلم، أو كما قال الكاتب على لسان “ترايان” بعد موت الأرانب البيضاء: “تظهر الساعة التي لا تنتمي لتاريخ ومبدأ، بل أحداث متواصلة وانتهاكات دون قلمٍ مؤرّخ، أو رجلٍ صادق يصرخ بالحقيقة”.
سلسلةٌ متواصلة من العذابات التي تلاحق شخوصَ الرواية، أحداثٌ حقيقيّة تستند لتاريخ كلِّ دولةٍ شاركت في تلك الحرب. مجتمعٌ تقنيّ نراه الآن مبنيًّا على الرفاهية، غيرَ قادرٍ على إنتاج أفكار أو خلق وعي، وهذا ما يجعله يتأخر ويتأخر..
مهمةُ الكتابةِ السعيُ وراء الحقيقة، سردُ حيوات البشر ووصف الحياةِ المحدودة من الأجيال السابقة للأجيال اللاحقة بمزيج من الألم والشفقة والاندهاش من كل متوقع..
مهما بدا لنا نموذجُ الكتابة عن الحرب والأسى طبيعيًّا، فإنه يحملُ معه آلامًا بشريّةً ممتدة، وإن كل ما يقوم به البشرُ بطبيعة الحال هو البحث عن المكانة، وأن السعي وراء المكانة ناتجٌ عن الفضيلة التي يسعى لها صاحب الثروة، والاحتقار الذي يلازم الفقير وتوجيه أصابع الاتهام نحوه في كل ما يتعلق بالرذيلة والانحطاط الفكري والعقائدي أيضًا.
إن رواية الساعة الخامسة والعشرون روايةٌ عظيمة، يجب أن تُدرّس ببعدها الإنسانيّ قبل الجغرافيّ والتاريخيّ، روايةٌ من العيار الثقيل، إذ تصنف كروايةٍ متوسطة إلى متقدمة وذلك لما تحتويه من تحليل وعرض أفكار وشروحات ونبوءات نراها الآن حقيقيةً نمارسها..
وفي النهاية تذكّر؛ يبتسم المرءُ لقاتله حينما يفقد الثقة في نفسِهِ للحصول على حقه، ولك أن تتخيل بأن الحق عبارةٌ عن سنوات العمر مضافًا إليها ألم، ألمٍ من العيار الثقيل كالرواية.