لا يزال المرء عالما ما طلب العلم، فإن ظن انه علم فقد جهل، لم أجد افضل من هذه المقولة لابن المبارك مفتتحا لهذه المقال، رغم اني سأروي فيها قصة بعيدة عن الفقه، وهي قصة الطبيب دايفد نالن، الأمريكي الذي سافر إلى بنغلادش في الستينيات، ليحاول محاربة مرض الكوليرا الذي تفشى بالبلاد، وكان الوباء سببا في ملايين الوفيات، ولمن لا يعرف الكوليرا، فهو مرض بكتيري لعين عادةً ما ينتشر عن طريق الماء الملوَّث. تتسبَّب الكوليرا في الإصابة بإسهال وجفاف شديد. وإذا لم يتم علاجها، فإنها يمكن أن تكون قاتلة خلال ساعات، حتى لدى الأشخاص الذين كانوا أصِحَّاء سابقًا، وهي اكثر ما تنتشر في الأطفال، وقد قضت على كثير منهم في اسيا و أفريقيا.
ورغم ان هناك علاجا لهذا المرض وهو التسريب الوريدي، حيث يعطى المريض محلولا ليعوض نقص التغذية، لكن هذا الحل متوافر في البلدان المتقدمة، أو على الأقل في مستشفيات المدن في بلدان العالم الثالث، بينما الأرياف وهي المناطق الأكثر تضررا، لا يمكن أن تتوافر فيها الكميات المطلوبة من هذا المحلول لملايين الناس.
وأمام هذه المعضلة، قرر الطبيب انف الذكر ان ينظر في المسألة، ويبحث فيما هو حوله من أدوات بسيطة يمكن أن تساعده في إنقاذ حياة واحدة، وتمنع عنها الموت او تؤجله على الآقل، وقد بدأ التفكير بما يحفظ السوائل في الجسم، فلم يجد أفضل من الأملاح، حافظا للماء، لكنه واجه مشكلة فيما يحفظ الأملاح في الجسم، وفطن إلى أن الغلوكوز يقوم بهذه المهمة، فاختار السكر حافظا للملح، وبذا يحافظ على السوائل والأملاح داخل الجسم، بأدوات بسيطة، ممكن ان تجدها في اي مطبخ، سواء كنت في قصر او خيمة، ولكن ظل عليه أن يعرف التركيبة الأنسب لهذا العلاج، وبالتجربة والخطأ، اعتمد نصف ملعقة من الملح، مضافا إليها ستة ملاعق من السكر، توضع في لتر من الماء المغلي، وتقضي على المرض في الجسم.
اليوم تنسب منظمة الصحة العالمية لهذه الخلطة شديدة البساطة، إنقاذ حياة ما يقارب خمسين مليون انسان، خلال العقود الماضية، منذ اكتشفها نالن عام 1968 بمعدل انقاذ سنوي يصل الى مليون ونصف حياة.
وبحسب اليونيسيف لم يسبق لوصفة علاجية بهذه البساطة والتكاليف الزهيدة ان عالجت هذا العدد من البشر في مثل هذه المدة القصيرة.
فتخيل لو انه استسخف الفكرة، أو استرخصها، كم حياة كنا سنخسر؟
والحكمة من كل هذا هو اعتراف الطبيب بجهله، فلو ظن انه عارف بكل ممكن، وان ما كان ممكنا هو ما كان متاحا فقط من أدوية، ولو لم ينظر في أمره وما هو حوله، واحترم الظرف الذي أحاط به، لما كان فُتح له هذا الباب، فلم يكن ليبحث غير عن الدواء المعلب الجاهز، واكتفى بما وصل له سابقوه، وكنا حينها خسرنا 50 مليون حياة أخرى، وهو عدد مقارب لضحايا الحرب العالمية الثانية بقنابلها النووية، التي أبادت مدنا بأكملها!
كما أن في ذلك حكمة أخرى، وهي ان لا تستسخف أفكارك او حلولك مهما كانت بسيطة، فتبسيط الأمور أصعب بكثير من تعقيدها، كما يقول دايفيد نالن، وتذكر دائما أنه اذا كان الملح والسكر والماء، تكفلت بانقاذ الملايين، فلماذا لا تصلح تركيبة بسيطة من الأفكار مثل تلك من إنقاذك انت؟
وهنا تظهر لنا قوة الجهل، حيث أن الطبيب المذكور لو لم يعترف بجهله، لم يكن ليجرب، أو يبحث، فقد درس وتعلم وخبر الطب والمرضى و الأدوية، ولم يكن ينقصه من الشهادات أو من المعرفة الأكاديمية شيء، وكان غروره منعه حتى من أن يحاول، لذلك كان الجهل نعمة، ومعرفة حدود المعرفة هبة، خصوصا في مثل هذه الحالات.