انتهى مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي لعام 2023 (COP28)، الذي عُقد في الإمارات العربية المتحدة، مع الملاحظة المعتادة بعد كل مؤتمر، وهي "بدعوة غير مسبوقة" للحكومات لـ "الابتعاد" عن الوقود الأحفوري، كجزء من أجندة أوسع لمحاولة الحفاظ على أرتفاع درجة حرارة الأرض تحت 1.5 درجة مئوية مقارنة بمعدلات درجات الحرارة ما قبل الثورة الصناعية الأولى. وهذا هو الهدف العالمي الوحيد الذي عجزت دول العالم عن تحقيقه بعد 28 مؤتمراً عالمياً نظمته الأمم المتحدة، والعديد من المؤتمرات الإقليمية والخاصة التي تقدمت فيها جمعيات ومنظمات المجتمع المدني هنا وهناك اجنداتها ذات العلاقة. والآن وبعد مئات الوعود والمعاهدات والمواثيق المناخية، أين تقف البشرية في رحلتها لمحاربة التغير المناخي؟
تمكنت دول الشمال من تحقيق العديد من الأهداف الخاصة بها كتخفيض مستوى الانبعاثات الناتجة عن الكربون. وعلى سبيل المثال، نجحت المملكة المتحدة - التي كانت في 2022 من بين أكثر من عشرين دولة مصدرة للانبعاثات؛ والتي كانت تاريخياً المسؤولة الرئيسية عن النسبة الأكبر من الانبعاثات في أوروبا، في تخفيض مستوى الانبعاثات بنسبة 44٪ بين 1990 (السنة الأساس) و2020. وتمكن الاتحاد الأوروبي من تخفيض الانبعاثات من 5.6 مليار طن من ثاني أكسيد الكربون في 1990 إلى 4.2 مليار طن في 2018. حتى الولايات المتحدة، التي يصف خبراء المناخ جهودها بتخفيض الانبعاثات بأنها "غير كافية"، نجحت بتقليل الانبعاثات من 7.1 مليار طن في 1998 إلى 6.7 مليار طن في 2022. وتثير هذه الجهود الضخمة استحساناً ورضى عن الذات من حيث المبدأ، لكن القصة لا تنتهي عند هذا الحد، فبعد إلقاء نظرة أكثر تمعناً بنسب الانبعاثات على مستوى العالم ككل نستنتج أن الانبعاثات تتزايد ولا تتناقص، وأن الامور تزداد سوءا عام بعد عام.
تسرب الكربون
لقد تمكنت دول الشمال من تخفيض الانبعاثات من خلال التشريعات والقوانين الصارمة التي استهدفت قطاع الصناعة والخدمات المحلية، وفي الواقع نحتاج لمتابعة حثيثة، ويقظة معرفية لحماية أنفسنا من الخداع الذاتي والتضليل لتكوين صورة كاملة وشاملة لطبيعة الانبعاثات ونسبها المتصاعدة في العالم. في 2020، قامت المملكة المتحدة على سبيل المثال بتحديث وثيقة المساهمة المحددة وطنياً لعام 2030 (خطة العمل المناخي لتخفيض الانبعاثات والتكيف مع تأثيرات تغير المناخ التي تقدمها كل دولة إلى الأمم المتحدة كجزء من اتفاقية باريس) لتقليل انبعاثات غازات الدفيئة بنسبة 68٪ على الأقل مقارنة بمستويات عام 1990 (باستثناء الطيران والشحن الدوليين).
والملاحظ في هذا التحديث استثناء الطيران والشحن الدوليين، هذه الجزئية الصغيرة، التي يمكن العثور عليها في العديد من المعاهدات والوعود التي يلتزم بها الجزء الشمالي من العالم، ولكنها تشكل الخطر الأكبر، وأزعم أنها أحد الأسباب الرئيسة وراء عدم تحقيق الأهداف العالمية المتعلقة بالمناخ.
في هذا العالم المعولم، تنتشر سلاسل التغذية والتوزيع حول العالم لكسر الحواجز والمسافات والحدود التي تعتبر عائقاً يواجه سكان دول الجنوب في التنقل والسفر، وتكاد تكون معدومة للبضائع التي تُنتج في نفس المناطق، ويستفاد منها في الشمال. ونعود لمثال المملكة المتحدة، التي تُعتبر سادس أكبر مستورد للمواد الخام في العالم لعام 2020، ومن مستورداتها طوب البناء الأحمر، وهو مادة تُستخدم في بناء المباني السكنية، بمعدل يتجاوز 30 مليون طوبة سنوياً من الهند وباكستان وبعض من الدول الاخرى المجاورة لهما، والتي تتميز بأسعار منخفضة جداً، 39.51 جنيه إسترليني، شاملة رسوم النقل، لكل 8000 طوبة، مقابل 686 جنيه إسترليني لنفس العدد من الطوب المُنتَج محلياً في المملكة المتحدة. هذا السعر جعل العديد من الدول الأوروبية، بما في ذلك المملكة المتحدة، التي استوردت لوحدها زهاء 33 مليون طوبة في 2019، وهو عشرة أضعاف مستورداتها في 2015، البالغ أكثر من 3 مليون طوبة.
ينطوي هذا السعر المنخفض على العديد من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والبيئية التي تحدث خارج حدود المملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي، والتي لا تُولى أي اهتمام يذكر من الحكومات أو جمعيات المناخ في دول شمال العالم. فعلى سبيل المثال، تُكلف كمية الطوب المُستورد التي تُستخدم لبناء منزل واحد في المملكة المتحدة - 8000 إلى 9000 طوبة - البيئة 9000 كغم من ثاني أكسيد الكربون، أي ما يُعادل استهلاك 21 برميل من النفط، مقارنة بـ5280 كجم من ثاني أكسيد الكربون الناتج عن الطوب المُنتَج محلياً.
هنا، تأتي جملة "باستثناء الطيران والشحن الدوليين" لتكون المفتاح. اعتماد دول الشمال على نقل الصناعات المحلية والمصانع لمناطق الجنوب، أو خارج حدودها بشكل عام، مثل صناعة الطوب وغيرها الكثير من الصناعات، بهدف تقليل التكاليف، ولكن الاهم والاخطر ما ينتج عن ذلك من نقل الانبعاثات إلى تلك المناطق. وتحميل مسؤولية الانبعاثات إلى دول الجنوب، ويُعد ذلك ما يُعرف بـ "تسرب الكربون". والأخطر من كل ذلك تحويل هذه المسؤولية إلى دول الجنوب، مقابل (التطور الاقتصادي) لدول الجنوب وخلق الوظائف، ويتم إخفاء ذلك تحت مسمى "تعزيز النمو الاقتصادي الشامل والمستدام، وتوفير فرص العمل والعمل اللائق للجميع".
الهدف الثامن من أهداف التنمية المستدامة التي طرحتها الأمم المتحدة.
يُستعمل مصطلح الكولونيالية ويتم تداوله ومطابقته على السياسة والاقتصاد والتعليم والثقافة، وكل منها يحمل تعريفاً مبنياً على التعريف العام للكولونيالية، التي تُنظر إليها بشكل أكاديمي. وفي هذه الحالة التي نتحدث عنها، الكولونيالية المناخية (أو الكولونيالية الكربونية) هي العمل المنظم على إحتساب مستوى الانبعاثات بشكل محلي فقط، لتغطية الضرر البيئي الناتج عن تصدير الصناعات الأكثر تلوثاً من دول الشمال إلى المناطق الأقل تطوراً (وغالباً تكون دول الجنوب)، وتحميلها مسؤولية هذه الانبعاثات، وتغليفها بغطاء التطور الاقتصادي، أو بكلمات أبسط، رفع أهمية مناخ دول معينة على حساب مناخ دول أخرى.
تجاهل المسؤولية العامة
لا تقتصر الكولونيالية المناخية على إخلاء المسؤولية من البصمة الكربونية الحالية والاستفادة من نتائج العمليات الإنتاجية في دول الشمال، مع ترك ضررها في دول الجنوب، بل تمتد نحو تجاهل تحمل مسؤولية عواقب ما فعلته هذه الدول (دول الشمال) في السابق في تلك البلدان (دول الجنوب) كجزء من الثورة الصناعية والتي يشهد عليها العالم الآن. لتوضيح جانب آخر من جوانب الكولونيالية المناخية، وقد تكون صدفة تشابه هولندا وبنغلادش جغرافياً فرصة سانحة للشرح والتفسير وبيان أسباب الإختلاف الاستجابة للتحدي والمفارقة في تأثير انخفاض اليابسة عن مستوى سطح الأرض، وانعكاسات التغير المناخي عليهما بشكل عام .
تبعد هولندا أكثر من 7000 كم عن بنغلاديش، وتتشابه معها تشابهاً كبيراً في الطبيعة الجغرافية. فالدولتان واقعتان أمام سواحل بحرية، وتضم العديد من الأنهار التي تتخلل أراضيها وتفيض بين الحين والآخر، وتقع أغلب أراضيها تحت مستوى سطح البحر بشكل خطير وبعض مناطقها ترتفع إرتفاعاً بسيطاً فوق سطح البحر ما يجعل تصريف المياه من الأرض عملية شبه مستحيلة طبيعياً. كما تتميز الأرض في الدولتين برهافة الطبقة العليا من التربة والصخور السطحية مقارنة بالدول الأخرى، ما يجعلهما عرضة للجريان السطحي للمياه.
كل هذه الخصائص الجغرافية أدت إلى تآكل التربة بشكل متزايد. وبفعل التحضر وإزالة الغابات والأنشطة الزراعية تتعرض التربة لتغيرات المناخ وزيادة تدفق المياه السطحية، مما يسهم في تآكلها بشكل ملحوظ. وهذا لا يؤثر فقط على جودة المياه بل يغسل أيضاً كل التربة النافذة، مما يجبر الطين والصخور غير النافذة على الظهور مرة أخرى. ونتيجة لذلك، تزداد فرص حدوث الفيضانات ليس فقط في المستقبل القريب بل في الوقت الحالي أيضاً. علاوةً على ذلك، تُعتبر هاتان الدولتان من أكثر الدول المعرضة لخطر ارتفاع مستوى سطح البحر بسبب التغير المناخي، مما يتوقع أن يؤدي إلى غمرها بالمياه بحلول 2050.
ورغم جميع هذه التشابهات البيئية والمشاكل المناخية، إلا أن هولندا من المتوقع أن تتجنب بشكل كبير العواقب التي تنتظر بنغلادش أو على الأقل تجنب نفس الشدة، بفضل التكنولوجيا المستخدمة في إنشاء السدود المانعة للفيضانات التي بدأ الهولنديون ببنائها في القرن العشرين والتي وصلت كلفتها إلى 5 مليار يورو، ولكنها عملت على حماية أرواح وممتلكات أكثر من 10 مليون هولندي.
وقد تكاد الصورة تكون معكوسة تماماً في بنغلادش، حيث تواجه المنطقة خطر الفيضانات بشكل مستمر الناتج عن ارتفاع مستوى سطح البحر وفيضان الأنهار التي تتخلل فيها، مثل براهمابوترا والغانج وميجنا. كما تضاعُف الأعاصير المدارية الضرر الناجم عن التغير المناخي والتي تزداد وتيرتها وقوتها بفعل التغير المناخي، وغمر المياه آلاف الكيلومترات المربعة في بنغلادش بشكل دوري بسبب غياب التكنولوجيا الحديثة والسدود المتطورة لمنع هذه الفيضانات، والتي من المتوقع أن تؤدي في المستقبل القريب إلى فقدان 10 إلى 15 مليون شخص منازلهم وممتلكاتهم، وخسائر دائمة في الأراضي، وزيادة الأمراض، وتدهور البنية التحتية، وفقدان النظم الإيكولوجية الثمينة، مما يسفر عن خسائر اقتصادية كبيرة وتهديد سبل العيش لملايين البنغاليين. وبما أن الناتج القومي لبنغلادش يبلغ 460.2 مليار دولار في 2022، فإنه من الصعب عليها الاستثمار في مشاريع بيئية ضخمة قد تكلفها المليارات، إن لم تكن التريليونات من الدولارات، لإنشاء وتطوير شبكة من السدود المشابهة لتلك الموجودة في هولندا، التي سجلت ناتجاً قوميًا في نفس السنة بلغ 1.01 تريليون دولار.
فكما تحدثنا سابقًا عن تفضيل مناخ منطقة ما على حساب منطقة أخرى، وتغليفه بما يسمى بالتطور الاقتصادي، وهذا خير مثال على ذلك لتوضيح الجوانب الأخرى للكولونيالية المناخية المؤثرة في اقتصاد بنغلاديش الذي يتوسع الآن بوتيرة ملحوظة، مع نمو مستمر في الناتج المحلي الإجمالي الحقيقي بنسبة لا تقل عن 6٪ منذ عام 2009، مما يجعل بنغلاديش واحدة من أسرع الاقتصادات نمواً في العالم. وذلك بفضل نقل صناعات كثيرة إليها مثل المنسوجات والملابس والمواد الكيماوية والصناعية، التي تفضل الشركات شمالية الأصل نقل مصانعها إلى بنغلادش بفضل رخص القوة العاملة وأسباب أخرى وتشجعها وتدعمها على ذلك شبكة واسعة من المنظمات الحكومية وغير الحكومية بكافة الوسائل والسبل .
في المقابل، تم التبرع لبنغلادش بملايين الدولارات لدعم وتعويض الخسائر الناتجة عن الفيضانات، ولكن بدون أي دعم واضح وحقيقي باتجاه رفع مستوى التكنولوجيا وبناء السدود لمنع حدوث هذه الكوارث. ويوضح ذلك اهتمام دول الشمال بالاقتصادات الجنوبية ودعمها، لأن العائد الاقتصادي والمناخي منه كبير ويفيد اقتصاد هذه الدول في الوقت الحالي والمستقبل القريب، وتجاهل الدعم الحقيقي الذي تحتاجه بنغلادش لإفادة بنغلادش فقط وبدون أي عائد اقتصادي حالي لدول الشمال، مع الإشارة إلى أن العواقب المناخية التي تتعرض لها بنغلادش الآن هي من صنع دول الشمال بما أصدرته من عوادم ومخلفات بيئية منذ الثورة الصناعية إلى يومنا هذا، إذ تعتبر دول الشمال أكبر المساهمين بالبصمة الكربونية في العالم.
ماذا الآن؟
الكولونيالية المناخية ليست مجرد ظاهرة فردية أو محدودة المدى، بل هي نتيجة لنظام عالمي مترابط يفضح التفاوتات الهائلة بين الدول المتقدمة والنامية، ويعكس استمرار التاريخ الاستعماري في سياسات الاقتصاد العالمي والتنمية. وتجاهل المسؤولية العامة وتحميل الدول النامية عبء الكوارث المناخية التي أسهمت فيها الدول الصناعية لقرون، يعكس نهجًا غير عادل وغير مستدام في التعامل مع هذه الأزمة العالمية.
تُعتبر هذه المقالة مقدمة لسلسلة من المقالات التي تستكشف بعمق مفهوم "الكولونيالية المناخية". في الأجزاء القادمة، سنقوم بمناقشة تفاصيل أعمق، والعقبات، والحلول، والعديد من الجوانب الأخرى المتعلقة بهذه المسألة الحيوية. من خلال تحليل شامل ودراسة مستفيضة، نهدف إلى تسليط الضوء على تعقيدات الكولونيالية المناخي، جذورها التاريخية، وتجلياتها الراهنة، والتأثيرات العميقة التي يترتب عنها على مجتمعات دول الجنوب. من خلال استكشاف دراسات الحالة والأطر السياسية والمبادرات الشعبية، نأمل في تعزيز فهم أفضل للظلم النظامي الذي تفرضه الكولونيالية المناخية وتحديد مسارات نحو حلول عادلة ومستدامة.