إنّك تستعمل يوميًّا عشرات الكلمات الفصيحة وكلّ ظنّك أنّها عاميّة، قَدْ تستعملها في مواضعها الصحيحة كزجرك لرجل سمجٍ ليتوقّف عن حديثه المزعج: لا تبربر، وقَدْ تستعملها في غير مواضعها الصحيحة حين تريد أن تتظارف على صديقٍ وتتهمه بأنّه محبٌّ متيّم فتقول له: بمين صافن؟
ولا بأس أن تخونك البلاغة وتجانب الصواب، ولكن كرامةً لعالمٍ جليلٍ حفظ الطبَّ من الضياع، توقَّف عن استخدام كلمة "صافن" بمعنى"شارد الذهن"، وتعال لأحدّثك بالقصّة.
فقه الأطبّاء المسلمون التشريح الدقيق للأوردة السطحيّة في جسم الإنسان وابتكروا الفصاد (عمليّة النزيف العلاجيّ)، وكانوا يعمدون إلى إجراء هذه العمليّة في وريدٍ ظاهرٍ عند الكاحل، الحقيقة أنّه مِن البداهة أن تجرى هذه العمليّة في هذا الوريد، لأنّه ظاهرٌ بيّنٌ أولًا، ولأنّه موروثٌ طبيّ مذكورٌ في تِركة الأمم السابقة، عند الإغريق والرومان مثلاً، ولا تحتاج إلى كثير تفكير لتخمّن اسمه المذكور في الكتب الأولى، فقد سمي ب"وريد الكاحل"، ولم يغيّر الأطبّاء المسلمون هذا الاسم اليسير الذي يسهّل على الدارسين دراستهم، وذكروه باسمه الأوّل: وريد الكاحل، وقَبل أن تتململ مِن ذكر هذه المعلومة الطبيّة التي قَدْ لا تهمّك، دعنا نذهب إلى الشيخ الرئيس ابن سينا.
في كتابه "القانون في الطبّ"، ذَكر ابن سينا وريد الكاحل باسم "الوريد الصافن"، إنَّه لا يواسي "العصب الحائر" ويذكّره بوريدٍ خائب مثله، لكنّه رجل فطنٌ فقيه، عرف أنّ وريد الكاحل ليس رافدًا صغيرًا من الروافد الوريديّة، لكنّه وريدٌ طويلٌ يبدأ عند الكاحل ويصعد ليمرّ بالساق والفخذ ثمَّ يصبُّ في أوردةٍ متتاليّةٍ تصبُّ أخيرًا في القلب، وعلى عكس الجزء السفليّ من هذا الوريد، لا تبدو الأجزاء العلويّة المتبقيّة جليّة واضحة، بل هي لرجلٍ أتقن فنّ التشريح كابن سينا عميقةٌ مغطاةٌ بالنسيج الدهنيّ ومبطنةٌ باللفائف، وبرغبةٍ بتسهيل الأمور وتسميّة الوريد اسمًا ملازمًا لصفته، وبفصاحةٍ وقدرة لغويّة عالية تعلم أنّ كلمة "صافن" تعني "الباطن" سمّاه ابن سينا: الوريد الصافن.
قَدْ تحتجُّ على هذه المعلومة لو كنت تعلم أنَّ أوردة الأطراف السفليّة تقسّم إلى مجموعتين، مجموعةٌ سطحيّة ومجموعةٌ باطنة، والوريد الصافن هو وريدٌ من الأوردة السطحيّة البيّنة الظاهرة! فكيف يقع ابن سينا بخطأ مثل هذا ويسمي وريدًا سطحيًّا هذا الاسم؟ ولا تلام على احتجاجك هذا، فقد وقع في هذه المغالطة أطباء كثيرون.
صحيحٌ أنَّ أوردة الأطراف السفليّة تقسم إلى سطحيّة وباطنة، ولكنّ هذا التقسيم يستند إلى نقطة تشريحيّة هي اللفافة العضليّة، ولا علاقة لهذا التقسيم بوضوح الأوردة من عدمه، ولأنّ كتب التشريح الحديثةِ تُغفِل تصوير هذا الوريد تصويرًا يتلاءم مع مستوياته التشريحيّة، بمعنى أنّها لا توضّح أين يقع الوريد وماذا يحدّه من جهاته الأربع، فإنَّ كثيرًا من الأطبّاء والعامة يظنون أنّ أي وريدٍ ظاهر على الجانب الإنسيّ من الفخذ هو الوريد الصافن، وهذا خَلطٌ كبير، لأنّه غالبا لا يُرى ولا يتبيّن في الرجل السليمة البريئة من مرض الدوالي.
وهذه المغالطة أدت أيضًا إلى عَثرةٍ في الصراع الأممي بين الحضارات التي تريد أن تنسب تسميّة الوريد الصافن إلى نفسها دون دليل، وكلّهم ينسبون التسمية إلى كلماتٍ من لغتهم بمعنى "ظاهر"، فتراهم يقولون مثلا أنّ أصل "saphenous" إغريقيُّ مشتقٌ من الكلمة"safania" الصفة المؤنّثة من كلمة "safes" التي تعني "الواضح"، وتنقض هذه الدعوة حقيقتان، أولاهما أنّ مؤنث الكلمة الإغريقيّة "safes" هي "safes" وليس "safania"، وثانيهما أنّ الوريد الصافن ليس واضحًا أصلا، هذا عدا من أنّه لم يذكر بهذا الاسم "safania" في أيّ من كتب الحضارات القديمة، وذُكر كأنَّه رافدٌ وريديٌّ باسم: وريد الكاحل، وهذا رأيٌ ذهب إليه جرَّاح الأوعيَّة الدمويَّة وزميل كليَّة الجراحين الأمريكيّة الدكتور John J. Bergan، وجرَّاح الأوعيَّة الدمويّة الإيطاليَّ الدكتورAlberto Caggiati في بحثٍ متخصص مفصَّل نشر في "Journal of Vascular Surgery".(1)
والآن، ما رأيك أن تدع صديقك المتيَّمُ وشأنه، وأن تكفَّ عن وصفه" بالصافن" لتترك للكلمة معناها الجميل الذي يفضُّ نزاعًا حضاريًّا وينصف الشيخ الرئيس؟
___________________________________________
(1)The saphenous vein: Derivation of its name and its relevant anatomy, Journal of Vascular Surgery
Volume 35, Issue 1, January 2002, Pages 172-175