لطالما برعت السيرة الشعبية في خلق عوالم لا يمكن إنكار جماليتها وسحرها الخاص، لاسيما ياختراقها الأبعاد الزمانية والمكانية بل وحتى ما ينتمي للواقع، مُتجاوزةً الحقيقي إلى العجائبي والمقبول إلى غير المعقول،وهو ما يمكن رصده في أغلب القصص والسير الشعبية في مختلف الثقافات ... بالطبع الثقافة العربية ليست استثناء من ذلك فسيرة سيف بن ذي يزن أو حكايات علي الزيبق أو قصص ذات الهمة كلّها أمثلة فولوكلورية واضحة عن تلك العوالم.
ضمن الأفق أعلاه، نقل الموروث الحكائي العربي سيرة عنترة بن شداد الشعبية في قالب لا يخلو من التجاوز على الطبيعي، فهذه الشخصة البطولية في سيرتها تبدو بعيدة عن زمن الشاعر الجاهلي بل تلتبس الأمور أكثر حين نُدرك إنها مرسومة بنمط يُخالف كُل ما عرفناه عن أحد فحول الشعر القديم إلى ماهو أسطوري يفوق الخيال بتصرفاته وأفعاله.
بدأت المؤلفات العربية بحمل ملامح السرد القصصي في القرن الثاني للهجرة وبأثر واضح للأسطورة فيها عبر القصة البطولية التي تتمركز في تحريك حدثها شخصية ذات صفات خاصة تتمحور الحكاية حولها، أو ما تُعرف بالسير الملحمية التي استمر نتاجها منذ ذلك القرن وحتى القرن السادس والسابع الهجري في تضمين أشهر الحكايا والسير الشعبية في مطوَلات يتداخل فيها الواقعي مع الغرائبي، لتظهر لنا في القرن الثاني أولى النتاجات ضمن هذا النمط، ألا وهي سيرة عنترة .
الباحث سيقف على أن هذا النوع من القصص البطولي يمثل حاجة جمعية لبطل أوحد أو رمز مثالي يمكن إسقاط حزمة من القوة المفرطة والأخلاقيات العليا على حركته في نوع من التمثل الخيالي والتجسيد الموضوعي لشخصية البطل في المجتمع (1)، ويمكن بسهولة التقاط الكثير من العناصر المشتركة بين شخصية عنترة مع شخصيات بطولية تنحدر جذورها إلى الميثولوجيا والأساطير، كما يمكن أيضاً بيسر أن نرى عنترة هنا مُنتمياً لهذا النوع من الشخوص من أصحاب التكوين الجسماني الخارق والصلابة النفسية الهائلة، مع فكر يحاول دائماً ان يتوازى مع معايير وقيم سامية، فقد "مُثّل في الوجدان الجمعي مثالاً للحرية والفروسية والبطولة والشهامة والكرامة، والنبل الإنساني، فيما يتعدى اللون والجنس والأصل والفصل، والحسب والنسب"(2)، وهو عبر السيرة، كما سنرى، يتوازى أدبياً مع الملاحم التي تتبنى هذا النوع من الشخوص، وعليه فقد خرج الكثير من الباحثين والأدباء المعاصرين بقناعة تنحو لأن تكون سيرة عنترة ملحمة تمثل الأدب العربي، بل وبدأت مقارنتها مع إلياذة هوميروس، لوجود الكثير من التشابهات والجذور المشتركة بين الملحمة اليونانية والسيرة العربية، بدءاً من شخصية أخيل(3)، التي تشترك مع عنترة في الكثير من الصفات وانتهاءً بأحداث السيرة ومقاربتها لما جرى في الإلياذة .
على وجه المقارنة فإن الأحداث في كلا العملين تبدأ بشكل واقعي ثم تنغمسان في سلسلة من الغرائبي والمُتخيل غير الحقيقي، كما تتحرك هذه الأحداث ضمن ظاهرة خطف امرأة والتحاق البطل لاسترجاعها ومحاولة الأخذ بالثأر لذلك ومن ثم رحلات تتخللها حروب ومعارك ومنازلات، وعدا ذلك فهناك الكثير من المشتركات النفسية التي تصدر من بطلي العمل بشكل متشابه، ف عنترة كما أخيل، يرى ذاته بقوتها وجبروتها مختلفة عن باقي الناس، فهو ذو عزة نفسٍ يتبارى في الحروب لإثبات تفوقها، ويشترك مع البطل اليوناني في تجسيد الفرس والسيف كأفضل ما يمكن ان يحصل عليه بطل ما، فحصان عنترة هو الأفضل وسيفه هو الأكثر حسماً، وهو ما يُنشده أخيل أيضاً، كما حب المرأة ومكانتها الدافعة لخوض غمار الحرب في صورة مُشتركة يحاول كلاهما أن يتحركا ضمن نطاقها(4)، ومن الممكن بكل يُسر أن ينطلق الباحث ضمن ذلك لرصد الكثير من الصور الميثولوجية التي تهيئ للبطل في العملين ما لاتُهيئه لغيره من الشخصيات .
لقد تم تداول النماذج الميثولوجية في سيرة عنترة ضمن المشتركات المرصودة بينها وبين الإلياذة فـ"لم تجيء سيرة عنترة نسيجاً عربياً صرفاً، بل دخلت فيها عناصر عالمية، خاصة من ملاحم اليونان"(5)، ويمكن تحديد هذه المشتركات بثلاثة عناصر تمثل في الوقت ذاته الكثير من التجلي الميثولوجي في السيرة بشكل عام رغم اختلاف الثقافات بين اليونانية والعربية، أولها سياق وحبكة السيرة التي تستمد هيكلها من النماذج والثيمات الميثولوجية الخاصة بالرحلات الطويلة التي يقوم بها البطل لأجل غاية سامية غير مادية كالخلود أو الحب العظيم، وثانيها الذي يقع في إطار شخصية عنترة ذاتها التي تصبح بعد تهويل قدراتها غير منتمية لشخصية الشاعر الجاهلي بل هي أقرب لرمز أسطوري يتشارك مع أخيل نسبه المزدوج، لكن بدل أن يكون والده كبير الآلهة كما أخيل فإن أباه هو رئيس القبيلة وكبيرها، أما ثالث عوامل التجلّي فهي الكائنات غير البشرية التي يلتقي بها عنترة والتي تُمثّل جذراً صلباً يمتد مباشرة إلى عناصر الميثولوجيا، ويشترك بها مع سمات أي قصة ميثولوجية أخرى لا الإلياذة فقط، فيتزوج عنترة من الجان ويلد له مولود منهم إسمه غضبان يُعرف بقوته وبأسه واستعراض قوته أمام الملوك والشخصيات التاريخية على الجان والوحوش ذات التركيب الفسيولوجي المتعدد، بل ترتسم في الأدوات الحربية والرموز الأسطورية التي تأتي ضمن سياق القص ذلك أن "هناك السيوف والرماح التي لا تُخطئ أبداً والطواحين التي تطحن الملح وعباءات الإخفاء وغير ذلك من أدوات سحرية واسعة الانتشار في الحكايات"(6)، وعليه نجد في السيرة السيف المُطلسم الذي يستخدمه عنترة لأخذ ثأر ابنه غضبان، والمُهدى من أحد ملوك الجان حين حرره بطل السيرة سابقاً " يا أخي أعطني سيفك حتى إنني آخذ ثأري بيدي فناوله لملك سلهب الحسام فأخذه عنترة منه وقد أبدى الابتسام وتقدم إليهم وقد زادت بهم العبر والسيف في يمينه مُشتهر وكان هذا السيف مُطلسم منقوش فتقدم عنتر إلى أحدهم وضربه بذلك السيف فقسمه نصفين"(7)، والسيف هنا ليس أداةً سحرية فقط، بل إن أخذ عنترة له، هو نموذج متكرر في الميثولوجيا لأخذ البطل وحصوله عل قوة مضاعفة عبر تعويذة أو أداة كالسيف سابق الذكر، فيتكرر الأمر عند حصول أخيل على مستلزمات عدته الحربية التي تأتي مباشرة من هيفاستوس إله الحدادة والصياغة، وصانع أسلحة الآلهة .
كذا الأمر يحصل أيضاً في المرحلة الأخيرة من السيرة عندما يتم الانتقال لوصف موت عنترة، وهي تبتعد بالتأكيد عن موت الشاعر المذكورة في كتب التاريخ وما نقله الرواة، إذ "روى لنا الأغاني ثلاث روايات عن موت عنترة لم يأخذ بها أو بأي واحدة منها مؤلفو السيرة، لقد صوروا فيها ما شاء خيالهم الروائي وأرادوا أن يجعلوا من موته مجالاً فسيحاً للمجد البطولي والعظمة الحربية"(8)، في هذا السياق تنكشف للقارئ مشاهد يحتكم تصويرها وتنبعث هيكلتها من جذور ميثولوجية بحتة، بدءاً من تجلي الكثير من المظاهر الميثولوجية في طبيعة موت عنترة، إذ تتشابه مع موت أخيل عبر سهم يخترق جزءاً من جسد البطلين، والقاتل هنا كما في الملحمتين مدفوع بإحساس الثأر والحقد الناشئ من فعل سابق للبطلين تتكون منه الرغبة العارمة بالانتقام بطريقة خاصة لصعوبة اقتناص الفرصة المناسبة للنيل من شخصيات كعنترة أو أخيل.
في السيرة يكون القاتل هو وزر بن نبهان الملقب بالأسد الرهيص، وقد أعماه عنترة وأفقده بصره ليُنشئ بذلك وقوداً من الحقد في صدر وزر يتحول إلى سعي هائل للانتقام فينجح في رصد عنترة واقتناصه بسهم مسموم يؤول إلى موت البطل في وبدء مرحلة الحزن عليه ومن ثم نعيه التي تسبق الاحتفاء به في مشهد آخر مستمد من الميثولوجيا سنأتي عليه لاحقاً. في الإلياذة سنجد أن القاتل الحاقد والمملوء بالغضب والسعي للانتقام هو باريس ابن الملك بريام نتيجة لقتل أخيل لأخيه هيكتور في أحد أركان المعركة الطروادية، والذي ينتظر الفرصة المناسبة ليضرب أخيل في نقطة ضعفه الوحيدة، ألا وهي كعب قدمه، فيخر بطل الملحمة صريعاً (9).
ولا يقف الأمر هنا على التلاعب واستخدام الميثولوجيا في رسم الشخوص وطبيعة حركتهم في السرد بل يتعدى إلى الأحداث التاريخية وشخوصها وكيف إن مؤلف السيرة يجمع بينها رغم تباعد أزمانها واختلاف منابعها ضمن رحلة عنترة، وربما مشهد موت بطلنا في نهاية السيرة واجتماع الملوك والأبطال حوله رغم إنهم لا ينتمون في الواقع لذات الخط الزمني يكشف لك توق المؤلف لحشد العدد الأكبر من مخزونه الثقافي وموروثه المعرفي في زمن قصة واحدة، فمؤلف (أو مؤلفو السيرة) عملوا جهدهم ليحافظوا على هيبة بطلهم حتى بعد مماته فصَفوا الملوك كي يؤدوا واجب العزاء قرب قبر عنترة في مشهد مهيب تجتمع فيه شخصيات ضمن خيال الكاتب لا الواقع .
مصادر للمُراجعة
- للاستزادة في الكشف عن صفات البطل في السيرة الشعبية وفروقها عن الشخصية التاريخية يُنظر : طلال حرب، بنية السيرة الشعبية، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، 1998م، ص 117 .
- جميل قاسم، سيرة عنترة بن شداد إلياذة العرب، مجلة العربي الكويتية، ع 590 .
- أخيل (Achilles) في الأساطير اليونانية هو بطل ونصف إله،وهو في رواية هوميروس البطل العظيم، المهيب الجانب بسبب بأسه وقوته، وقد شارك في قتال الطرواديين، وصرع بطلهم هكتور، الابن الأكبر لبريام ملك طروادة. كما أظهر أخيل - وفق الرواية - تفوقه في المعارك الفاصلة، واستولى فيها على اثنتي عشرة مدينة على ساحل الأناضول، وإحدى عشرة مدينة داخل البلاد. وفي النهاية، يتمكن باريس Paris ابن بريام من قتله بمساعدة الإله أبوللو، عبر سهم مميت (ذكره دانتي في الكوميديا الإلهية)، يُنظر للاستزادة :
- Frederic Will , The generic demands of Greek literature , published by Rodopi , 1976 , p 57 .
- ينظر للاستزادة : حليمة قعري، البطولة لدى الإغريق والعرب دراسة مقارنة، رسالة ماجستير مقدمة إلى جامعة الشهيد حمة لخضر، 2017 م .
- يُهيئ د. علي شلق أرضية صلبة للمقارنة بين العملين، للاستزادة يُنظر : د. علي شلق، مراحل تطور النثر العربي في نماذجه، مج1، دار العلم للملايين، 2007 م، ص 25 .
- د. أماني الجندي، الأدب الشعبي / كتاب رقمي، وكالة الصحافة العربية، 2021م، ص 78 .
- سيرة عنترة بن شداد، ج8، دار الكتب العلمية، لبنان، 1980م،ص 61 .
- موسى سليمان، الأدب القصصي عند العرب، ص111.
- 9look : What We Get From Greek Mythology , Katherine Krieg , Cherry Lake Publishing , 2015 , p 21 .