من هو جورج أورويل؟
هو إريك آرثر بلير Eric Arthur Blair، صحافي وكاتب وروائي بريطاني، اشتهر باسمه المستعار جورج أورويل، عاش ما بين (1903 ـ 1950). اشتهرت أعماله بالوضوح والذكاء والمواقف السياسية القوية. انتقدت كتاباته المتعددة غياب العدالة الاجتماعية، وعارض الحكم الشمولي، ودافع عن الاشتراكية الديمقراطية، بعيدا عن الاستبداد بالسلطة والشمولية.
كتب في النقد الأدبي والشعر والصحافة الجدلية، واشتهر أكثر بعملين روائيين هما: " مزرعة الحيوان" (1945)، "1984" وكتبها سنة (1949)، فالأولى تشرح الانحدار الذي طال الاتحاد السوفييتي عقب الثورة الروسية وصعود الستالينية، أما الثانية فهي عمل "ديستوبي" يتحدث عن الحياة في ظل الحكم الشمولي المتحكم في كل مناحي الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، حين يسود حكم الفرد وتسخر أجهزة الدولة لفرض التبعية المطلقة وإخضاع الجميع لسلطته.
بجانب اشتهاره ككاتب صحفي وروائي، فإن لجورج إسهامات نقدية كذلك، ففي مقالته التي كتبها في عام (1946) والمعنونة بـ"السياسة واللغة الانجليزية" تحدث عن أهمية الوضوح اللغوي، فالكتابة يمكن أن تستخدم كأداة للتلاعب السياسي لأنها تحاكي أنماط التفكير لدينا فنتقبلها، لذلك كان ينصح بعدم استخدام الاستعارة أو التشبيه أو أي صيغ بلاغية اعتدت رؤيتها بشكلها النهائي دون العلم والوعي بها، ذلك أن طريقة استخدامنا للغة وبعض رموزها بشكل لا واعي قد يقيد قدرتنا على التفكير النقدي. لقد نصب أورويل نفسه في أغلب أعماله لفضح النفاق الفكري أينما وجد؛ سياسيا كان أو اجتماعيا.
نبذة عن رواية "1984 "
العنوان الأصلي لهذه الرواية كان "آخر رجل في أوربا"، ولكن الناشر اقترح على أورويل تغييره، فوقع اختياره على "1984"، دون معرفة سبب اختيار هذا الرقم بالضبط كي يكون عنوانا للرواية، إلا أن الرأي السائد الذي يذكر غالبا بهذا الخصوص هو أن العنوان في عكس لآخر رقمين من سنة (1948)، أي السنة التي أتم فيها أورويل الرواية، حيث استغرق في كتابتها ثلاث سنوات، ونشرت بعد ذلك سنة (1949).
كان أورويل شاهدا على واقع حافل بالأحداث التاريخية الكبرى، حيث عاصر صعود النازية والفاشية، وعاش مجريات الحرب العالمية الثانية، وبداية تقلص وأفول الإمبراطورية البريطانية، ونهاية الفترة الاستعمارية التي عاشها العالم، فكان بذلك شاهدا على إعادة تشكيل عالم ما بعد الحربين وفق قوى وأفكار جديدة ومتناقضة. ووسط كل هذا كان أورويل مؤمنا بمبادئ الاشتراكية الديمقراطية، وعلى الرغم من اعتباره يساريا إلا أنه كان يرى في صعود "الستالينية" انحرافا وانكسارا للثورة الشيوعية في الاتحاد السوفييتي، وتحولها لنظام حكم شمولي، لا يقل سوءا عن الأنظمة النازية والفاشية التي ناضل ضدها.
من هنا انطلقت الرواية كعمل من وحي الخيال السياسي، حيث تمكن أورويل من تحويل مواقفه السياسية وكذا تخوفاته من المستقبل، والتطورات المرعبة لتشكلات السلطة السياسية الحديثة، حول كل ذلك إلى عمل أدبي في قالب روائي محكم البناء. لقد كان اهتمام أورويل منصبا على كشف مظاهر "السلطة التوليتارية (وهي السلطة الشمولية الكلية التي تحاول فرض سلطتها على المجتمع، وتعمل على السيطرة على كافة جوانب الحياة الشخصية والعامة قدر إمكانها)، كنمط ديكتاتوري حديث في ممارسة السلطة يهدف إلى التحكم الكامل في الأفراد."
تبدأ الرواية في 1984 حيث العالم منقسم لثلاث دول كبرى وغالبا ما تكون في حالة حرب، الدولة الأولى هي أوقيانيا وهي عبارة عن الأمريكيتين وأستراليا والجزر البريطانية، والدولة الثانية هي أوراسيا وأراضيها هي روسيا والباقي من أوروبا، والدولة الثالثة هي إيستاسيا وتتكون من الصين واليابان وكوريا وشمال الهند. أما بالنسبة للشرق الأوسط وجنوب الهند وإفريقيا فهي عبارة عن ساحات حرب ومستعمرات متنازع عليها بين الدول الثلاث.
تفتتح الرواية مع "ونستون سميث" (39 عاما)، يعمل في "وزارة الحقيقة"، التي تتلخص مهامها في تزييف الحقائق، وذلك لصنع حقائق جديدة ومطلقة وفق إرادة الحزب وما تستوجبه الظرفية. نرى ونستون وهو يدخل غرفته وقد أصابه الإحباط من ديكتاتورية واستبداد الحزب وتحكمه في حياة ومصائر الجميع، أسلوب العيش محدد ولا شيء يترك للصدفة أو الاختيار الذاتي.
يفتح ونستون دفترا كان اشتراه بشكل غير شرعي ليبدأ في تدوين أفكاره، وهو مدرك تماما أنه حفر قبره بفعلته، فمجرد التفكير يعتبر جريمة في عقيدة الحزب ويستحق صاحبها الموت، وتسمى بـ"جريمة الفكر". يدون ونستون في دفتره أنه يكره "الأخ الكبير"، ثم يبدأ التفكير في "أوبراين"، أحد الأعضاء النافذين بالحزب الداخلي، والذي شعر ونستون بأن ولاءه للحزب ليس تاما، فقد كانت هناك إشاعات حول تنظيم شديد السرية هو أخوية منشقة تعمل ضد الحزب، وهنا بدأ يفكر في "غولدشتاين" عدو الحزب الأول، والذي كان في السابق أحد أهم أعضائه، ولكنه تآمر عليه وحكم عليه بالموت، إلا أنه استطاع الهرب ليشكل قلقا كبيرا للحزب، وتقام فعاليات دقيقتا الكراهية لتجديد الكره والحقد والرغبة في الانتقام منه.
بفعله هذا ـ التفكير والكتابة ـ حكم ونستون على نفسه بالموت، لذا لم يعد لديه شيء يخسره، "فالمرء في كل الحالات لن يقتل إلا مرة واحدة...". ومن هنا تبدأ الرواية ويبدأ استعراض القمع والتسلط والديكتاتورية والاستبداد والسادية والاضطهاد، وما يقابل ذلك من خوف ورعب وجزع وقلق، لأن أعين الحزب في كل مكان، وشاشة الرصد تراقب الجميع، وصور الأخ الكبير لا يخلو منها أي شارع، كما يقول ونستون: " لم يعد هناك مكان آمن سوى سنتيمترات معدودة في الجمجمة"، وحتى تلك السنتيمترات سينجحون في النهاية في احتلالها.
إن الإيديولوجية السائدة في دولة أوقيانيا ـ مسرح الأحداث ـ هي الاشتراكية الانجليزية "إنجسوك"، حيث المجتمع مقسم لثلاث طبقات: طبقة "الحزب الداخلي" وهي الأصغر والأقوى، وطبقة "الحزب الخارجي"، ثم طبقة "العامة" وهي الطبقة الأكبر والهامشية بشكل كلي ولا حقوق لها، وفي أعلى هذا البناء الهرمي يوجد الحاكم المسيطر والمتحكم المستبد "الأخ الكبير" الذي يمثل محور كل شيء، فهو رئيس الحزب الحاكم، الذي يراقب كل شيء ويعرف كل شيء، فحكمه حكم شمولي.
تتشكل الحكومة في دولة الأخ الكبير من أربع وزارات:
ـ "وزارة الحقيقة" وهي التي تتحكم في المعلومات والأخبار والتعليم والفنون، ويعمل البطل ـ ونستون ـ في قسم الوثائق بهذه الوزارة، ويقوم بتصحيح المستندات التاريخية والمقالات الصحفية لتتفق مع كل ما يتفوه به الأخ الكبير، ولتصحيح توقعات الحزب الخاطئة، وذلك لتصبح كل مزاعم الحزب حقيقة.
ـ وزارة الحب: ترصد المتمردين وكل من سولت له نفسه مجرد التفكير في مخالفة قرارات ومبادئ الحزب، تراقبهم وتقبض عليهم، تجبرهم على الاقتناع بأفكار الحزب، عبر الضرب والتعذيب والتجويع ... وحين يكاد المعتقل أن يلفظ أنفاسه يرسل إلى الغرفة الأكثر رعبا في مبنى الوزارة وهي الغرف " 101 " ليواجه أبشع ما في العالم من شر، وبذلك لا يترك المعتقل المتمرد إلا وقد حل حب الأخ الكبير في قلبه محل التمرد، والنهاية هي الموت وإن بعد إطلاق صراحه.
ـ وزارة السلام: هي القائمة على شؤون الحرب، فأوقيانيا في حرب دائمة مع أوراسيا وتحالف مع إستاسيا، وإن كانت في حرب مع إستاسيا تصبح في تحالف مع أوقيانيا، وتمحى كل ذكرى تقول بأنها كانت في حرب مع حليفتها الحالية حتى تبدو وكأنها في حرب دائمة مع الدولة نفسها التي صارت في حرب معها الآن. تهدف الحرب أساسا إلى استهلاك موارد البلاد دون رفع مستوى المعيشة، وذلك من خلال إنفاق فائض الاستهلاك على الحرب، حيث يصبح الجميع متساوون ولا يأكلون إلا ما يسد رمقهم، باستثناء ما يتمتع به أعضاء الحزب الداخلي من امتيازات.
ـ وزارة الوفرة: تتحكم هذه الوزارة في الغذاء واستهلاكه، من خلال التحكم في الإنتاج، وتصدر كل ثلاثة أشهر تصريحات زائفة تفيد ارتفاع الإنتاج ومستوى المعيشة، وتستعين بوزارة الحقيقة لتعزيز ادعاءاتها.
بعض الشخصيات الرئيسية في الرواية:
ـ وينستون سميث: بطل الرواية، موظف في وزارة الحقيقة، يخفي معارضته لأفكار الحزب، يرتكب جرائم الفكر، سيعتقل هو وحبيبته جوليا من طرف وزارة الحقيقة.
ـ جوليا: حبيبة ونستون، في العلن تعتبر من أشد المدافعين عن الحزب والأخ الكبير، كان ونستون في البداية يظنها تتجسس عليه، تشغل منصبا في رابطة متطرفة للشباب ضد الجنس، ثائرة في السر، وتخوض مغامرات جنسية رفقة ونستون، قبل أن يعتقلا معا.
ـ الأخ الكبير: حاكم أوقيانيا، هو تجسيد للحزب، يراقب كل شيء، يفرض على الجميع الخضوع لسلطته، تنتشر صوره وهو داكن العينين وكثيف الشارب في كل مكان.
ـ أوبراين: عضو نافذ في الحزب الداخلي، يوهم ونستون وجوليا أنه عضو في الأخوية السرية ليخدعهما ويلقي القبض عليهما.
ـ إيمانويل غولدشتاين: قائد سابق داخل الحزب، انشق عن الحزب، وانقلب على أفكاره، فأصبح يشكل عدو الحزب الأول، ألف كتابا ينتقد فيه أفكار الحزب ويضحدها، كما تم التسويق لذلك، لكن وينستون سيكتشف فيما بعد أن الكتاب من تأليف لجنة الحزب الداخلي التي تضم أوبراين. ولم تكشف أحداث الرواية عن ما إذا كان غولدشتاين وأخويته السرية حقيقيان أم مجرد ادعاء من الحزب.
مبدأ التفكير المزدوج:
بمثابة القدرة على التفكير بشكل متناقض مع تصديق أن الحقيقة الجديدة رغم تناقضها، أي القدرة على الادعاء بأن الأسود أبيض على عكس الحقيقة المجسدة في الواقع، أي أن يقر أعضاء الحزب بما يراه الحزب حقيقة وإن كان مخالفا للواقع، مع تصديق ذلك والإيمان به بشكل كلي ونسيان أنهم آمنوا بغير ذلك مسبقا.
التفكير المزدوج هو القدرة على الإيمان بفكرتين متناقضتين في الآن نفسه، مع المدافعة عنهما بضراوة.
"إن أي شيء يمكن أن يكون صحيحا، وليس في ما يدعى بقوانين الطبيعة إلا الهراء، وقانون الجاذبية ما هو إلا عبث. ألم يقل أوبراين لو شئت لجعلت أرضية هذه الغرفة تطفو كفقاعة الصابون. وأدرك ونستون الموضوع على النحو التالي: إذا كان أوبراين يظن أن بمقدوره أن يجعل أرضية الغرفة تطفو، وإذا ظننت أنا في الوقت نفسه أنني أراه يفعل ذلك، فإن الأمر يكون قد حدث بالفعل."
النهاية:
تعرض وينستون لتعذيب شديد وبشع، كي " يشفى من جنونه" (والجنون هنا يقصد به كراهية الحزب)، ومن ثم وبعد اقتياده للغرفة "101" وما تحتويه من رعب وما تعرض له وينستون داخلها من تنكيل وإهانة وترهيب، سيعترف هذا الأخير بجرائم ارتكبها ولم يرتكبها، وسيتراجع عن ولائه وحبه لجوليا، وذلك حين تم إرعابه بالجرذان التي تشكل نقطة ضعفه. وهذه هي آخر مراحل إعادة تأهيل وينستون ليصبح بعد ذلك تابعا وفيا للحزب وأفكاره ويتمكن من القضاء على كل الأفكار التي قد تشكل جريمة فكر.
سيقابل وينستون بعد خروجه من السجن جوليا مصادفة بإحدى الحدائق، وتكشف له أنها تعرضت للتعذيب أيضا، ويقران لبعضهما بأن كل منهما قد خان الآخر.
البعد الحقوقي داخل الرواية:
الأدب تعبير عن مختلف مناحي حياة الإنسان، وأفكاره ومعتقداته، الأدب انعكاس/ محاكاة لحياة الإنسان بكل أبعادها الوجدانية والعقلية والروحية والاجتماعية...
الأدب في معناه هو صورة عن الواقع الاجتماعي بأبعاده النفسية والفكرية والشعورية والمادية، ليس الأدب وجدانا فقط أو عاطفة جياشة، إنه أيضا وسيلة لتسليط الضوء على معاناة المجتمع ولفت الأنظار إلى هذه المعاناة، وذلك بغرض تغييرها وإيجاد حلول لها، أي أن الأدب يمكن أن يكون مرآة لكل ما يدور في المجتمع من خلال تركيزه على القضايا الإنسانية والسياسية والاقتصادية، وبذلك قد يتحول الأدب إلى جزء من الواقع الاجتماعي وليس مجرد انعكاس له، فكم من الروايات غيرت مجرى حياة الكثير من الناس، بل غيرت مفاهيم متجذرة في المجتمع. إن للعمل الأدبي أيضا وظيفة تطهيرية (كاطرسيس بالمفهوم الأرسطي) بالأساس.
ونحن نتحدث عن البعد القانوني أو الحقوقي داخل عمل أدبي ما ينبغي أن نكون شديدي الحذر حتى لا نلبس الأدب غير لباسه، وحتى لا نحاول إقحام ما لا يستوعبه هذا الأدب، فهو كما يعرفه مصطفى صادق الرافعي " الأدب من العلوم كالأعصاب من الجسم، هي أدق ما فيه ولكنها مع ذلك هي الحياة والخلق والقوة والإبداع " ، وبالتالي فكل العلوم قد تستعين بالأدب لخدمة قضاياها ومن ذلك القانون، فرجل القانون لا محيد له عن اللغة والأدب، لكن لا يمكن أن يختزل الأدب فقط في خدمته لقاعدة قانونية أو غيرها.
فالأدب يتسم بالزئبقية ويختلف مفهومه باختلاف زاوية النظر إليه، بشكل واضح ما قد يراه أحدهم أدبا قانونيا قد يراه آخر أدبا دراميا أو رومانسيا. ولكن رغم ذلك هناك من الأعمال الأدبية ما يتسم بتيمة غالبة محددة يمكن معها تحديد طبيعة العمل الأدبي.
وبالتالي ونحن نتحدث عن البعد الحقوقي داخل رواية "1984" فنحن نتحدث عن بعد من ضمن أبعاد أخرى، إذ لا نريد أن نسقط في ما يسقط فيه البعض حين محاولة مثلا إرغام قصيدة شعرية على أن تؤدي دورا تاريخيا وفقط، فالشعر وجدان، والشعر سحر، والشعر معاناة، والشعر شعور، والشعر خلق، وبالتالي فالحديث عن قصيدة تاريخية مثلا هو اختزال للشعر بعيدا عن جوهره وكل أبعاده.
البعد الحقوقي والقانوني داخل رواية 1984 يبدو جليا ذلك أن نزوع الكاتب إلى نقل كل مظاهر معاناة الإنسان مع استبداد النظام، وممارساته الدكتاتورية البشعة، وحكمه الشمولي، ليس بغرض التخويف أو الترهيب، وإنما بهدف وضع الإنسان أمام مرآة تكشف الحقيقة، وترسم الاتجاه الذي يسير نحوه، فالرواية بمثابة رؤية للحاضر بمنظار الكاتب، واستشراف للمستقبل بخياله وتنبؤاته، فالقارئ للرواية ما زال إلى اليوم يصدم بما تحويه من تصوير مخيف للحياة في ظل بيئة شمولية، حيث يجد تطابقا يتفاوت من واقع إلى آخر بين ما يصفه المؤلف وواقع القارئ، فتنفتح عينيه بفضل أورويل على آليات عمل الأنظمة الشمولية.
إن الإنسان في أوقيانيا (وهي ليست إلا رمزا لكل البلدان الشمولية) مدان حتى تثبت براءته، مراقب في كل مكان، ولا يحق له قول أو رؤية أو فعل إلا ما يؤمر به ويسمح له به الحزب. إنه مواطن في ملكية الأخ الكبير، حياته لها مسار مرسوم لا ينبغي المحيد عنه.
حين يسلب الحق حتى في التفكير وتفرض لغة ضيقة بمصطلحات محددة المعنى لا مجال فيها للاختلاف، فتلك بيئة شمولية بشعة. لغة تتحكم في تحديد العلاقات والمشاعر، كما ترسم العلاقة بين القوميات، فالمواطن في أوقيانيا تفرض عليه اللغة الجديدة أن يحب بشكل دائم الأخ الكبير، وفي المقابل الكراهية بشكل مطلق لإيمانويل غولدشتاين، والدولة التي تكون أوقيانيا في حرب معها.
بيئة يصادر فيها الحق في التفكير، وينفذ النظام السائد حتى إلى نفس الإنسان ليتحكم في وعيه ولا وعيه. ومن مظاهر هذا داخل الرواية ما حدث أثناء مظاهرة للحزب ضد العدو الأصلي ـ أوراسيا ـ ثم أعلن الخطيب في منتصف حديثه ـ بعد أن بلغه أمر بذلك ـ أن أوراسيا طالما كانت حليفا وصديقا، ليثور الحشد ويدمر الملصقات التي تندد بأوراسيا، وينادي الكثير بأن الأمر مؤامرة من عدوتهم (حليفتهم السابقة) إيستاسيا، إذ إنهم في هذه اللحظة يؤمنون بأن إيستاسيا هي غريمتهم منذ الأزل. في لحظة من الزمن يتحول الوعي والواقع خرافة تستبدل بواقع جديد هو الوعي الجديد الذي يراد له أن يصير حقيقة.
كما أن مظاهر انتهاك الحقوق وغياب كل حس قانوني في ممارسة السلطة للرقابة على الجميع، فهذا من أهم المواضيع التي تناولتها الرواية، ولا سيما حين الحديث عن مهام وزارة الحقيقة، حيث يتم إعادة كتابة السجلات ومحو كل ما يرغبون في محوه وجعله في حكم "اللاموجود" أصلا.
فالرصد الذي يمارسه الحزب خاصة على أعضائه الخارجيين يجعل من المستحيل الحفاظ ولو على لحظات من الخصوصية، حتى شققهم الصغيرة التي يقطنونها مزودة بشاشات للرصد تترصد كل كبيرة وصغيرة، إضافة إلى ميكروفونات مخبأة في كل مكان، كما تطلع الحكومة على كل المراسلات قبل إرسالها، في انتهاك للخصوصية.
كما يوظف الأطفال في مهمات بشعة لترصد كل من يخالف مبادئ الحزب أو تبدو عليه أفعال غير عادية حتى وإن كانوا آباءهم، فالعلاقة الواحدة المعترف بها هي الولاء للحزب والأخ الكبير.
الحزب عبر ممارساته يقوم بالقضاء على كل محاولة للتفكير ليفرض الإذعان والخضوع المطلق، "الإذعان هو عدم التفكير، عدم الحاجة للتفكير... إنه عدم الوعي." كما أن الحقائق التاريخية لا حق لأحد في محاولة البحث فيها إن كانت هناك أصلا حقائق لم تغير. " من يتحكم بالماضي يتحكم بالمستقبل، ومن يتحكم بالحاضر يتحكم بالماضي".
إن التعذيب وانتزاع الاعترافات من أكثر أشكال الاستبداد والظلم الحاضرة في الرواية، خاصة وأن الاعتقالات والسجن، تتم دون أساس قانوني ولا أي تبرير، ودون محاكمة، فالحزب لا يرى أنه في حاجة إلى ذلك ما دام أنه يعتبر أنه هو من يصنع الحقيقة، وبالتالي لا حاجة له في البحث عنها.
من الأقوال التي توضح غياب أي تفكير حقوقي أو قانوني لدى الحزب والأخ الكبير داخل الرواية:
ـ " إن السلطة ليست وسيلة بل غاية، فالمرء لا يقيم حكما استبداديا لحماية الثورة، وإنما يشعل الثورة لإقامة حكم استبدادي."
ـ "كلما ازداد الحزب قوة ومناعة قلت درجة تسامحه، وكلما ضعف معارضو السلطة اشتدت قبضة الاستبداد والطغيان."
ـ "تغيير الماضي ضروري لسببين، أولهما وهو ثانويي أو لنقل احترازي، أن عضو الحزب مثله مثل أي فرد من طبقة البروليتاريا يحتمل ظروف حياته الراهنة لأنه لا يملك معايير للمقارنة...
فرضت رواية 1984 نفسها منذ تأليفها على الواقع الأدبي والسياسي والحقوقي، باعتبارها رواية كلاسيكية من حيث الحبكة والأسلوب، وبوصفها عملا خياليا سياسيا، إلى جانب كونها أدبا ديستوبيا منذرا بخراب العالم، وتغير القيم والمعتقدات الإنسانية، وإعادة تحديد كل الحقائق وفق قناعات قلة من الأشخاص ذوي النفوذ، ولقد شاع استخدام مصطلحات الرواية إلى يومنا هذا مثل: الأخ الكبير، التفكير المزدوج، جريمة فكر، الغرفة 101، شاشة العرض...
ونرى أن هذه الرواية استفاد منها المدافعون عن الحقوق والحريات، الساعون إلى كشف ممارسات الأنظمة المستبدة والديكتاتورية والشمولية، من خلال التعرف على أساليب حكم هذه الأنظمة وفرضها للسلطة والتبعية. كما استفادت منها الأنظمة المستبدة نفسها، فلطالما كانت مرجعا للحكام المستبدين ينهجون نهج أبطالها في الانفراد بالحكم، وإخضاع المعارضين، وممارسة كل أشكال التعذيب، وتزييف الواقع. إنها رواية تمتح من الواقع، ولا ينفك المتخيل فيها أن يتحول واقعا.