كانت الفلسفة ولا تزال وستبقى والدةً للعلوم الإنسانيّة والحقيقية وأفقاً بعيداً لمن يرغبُ أن يُحلّقَ بعيداً وشمساً تُضيءُ طريقَ من آمنوا بوجوب البحث والتفكير والتحليل والتركيب ومفتاحاً مُهمّاً للوصولِ إلى الحقائق جميعها؛ فالفلسفةُ في كُنهِها نبشٌ وتعريّة في الأصول ودخولٌ في بواطنِ الحياةِ وخفاياها، بينما يعتقد الكثيرون أنّ الموسيقى مجرّدَ أصواتٍ ممتعة تُشبهُ إلى حدٍّ كبير الأضواء الساطعة الملوّنة في الشوارع والباحات حيثُ تُبهجُ المارّين فقط دونَ أن تقولَ شيئاً حقيقاً ذا مغزى أو معنى وبهذا الاعتقاد وهذه الفجوة الكبيرة فلا يمكن أن تتواجد أي علاقة بينَ الفلسفة والموسيقى، فهل هنالك علاقةٌ بينهما؟
في الحقيقة توجد علاقة هامّة ووطيدة بين الفلسفة والموسيقى وعطفاً على ذلك فالعلاقةُ بين الموسيقى والفلسفة ليست كعلاقةِ الفلسفةِ بالأشياءِ الأخرى وهذا ما سنتعرّفُ عليه في مقالنا هذا.
يقولُ الفيلسوف اليوناني أفلاطون في محاورة الجماهير: "الموسيقى تعطي روحًا للكون، أجنحة للعقل، طيرانًا للمخيّلة وحياة لكل شيء."؛ وعليه فالموسيقى في الفلسفة القديمة هي حوارٌ مفتوح في فضاءِ المخيلّة تفتحُ للعقلِ آفاقاً للطيران وعليهِ فإنها حياةٌ متكاملة، بينما يتجلّى الفيلسوف الرّوماني إيميل سيوران في مقولته الشهيرة: "لولا هيمنة المفهوم لحلت الموسيقى محل الفلسفة، ولكان فى ذلك فردوس الوضوح." وهذا مثالٌ يوضّحُ أنّ الفلسفة الحديثة لم تتخلَّ عن فكرةِ أنَّ في الموسيقى أبعاداً فلسفيّة عميقة تتجاوز كونها وسيلة للتسلية والمواساة وربما في وجهة نظر سيوران فإنَّ الموسيقى أبلغ من الفلسفة في الطّرح وفي قدرتها على الوصول حيثُ أنّها تخاطب الرّوح مباشرة بينما تخاطب الفلسفة العقل ومنها إلى الرّوح، ويسافرُ الفيلسوف الفرنسي الكبير جان بول سارتر صاحب الكتاب الأهم في عصرنا الحديث "الوجود والعدم" أبعد من أي شخصٍ آخر في مقولته: "قررت أن أفقد القدرة على الكلام وأن أعيش في الموسيقى." حيثُ يرى أنّه وهو الأكثر تأثيراً في رسائله الفلسفية وحواراته الوجودية غير قادر على الكلام بينما يستطيع أن يعيش في الموسيقى وهذه رسالة واضحة منه على أنّ الموسيقى أبلغ في بعض الأحيان من الكلام المحض.
ذكرنا في الأمثلة السابقة آراءً بسيطةً لفلاسفة كبار من حقب مختلفة ومدارس فلسفية مختلفة يتفقون على أنّ الموسيقى فلسفة ورؤية، بينما يرى كبار الشعراء أن الشعرَ موسيقى والموسيقى شعر ذلك أنَّ الشعرَ يعتمدُ على الموسيقى في إيصال المشاعرِ المكتوبة حيث يقول الشاعر والروائي الانجليزي ويليام شكسبير: "احترس من هذا الرجل، إنه لا يحب الموسيقى." ذلك أنّه يرى في من لا يحبُّ الموسيقى شخصاً فاقداً للمعنى والأهلية لأنّ الموسيقى ثيمةٌ مهمّة في إنتاج فردٍ متزنٍ نفسياً وصحيّاً مم وجهة نظر شكسبير، بينما يرى الشاعر اللبناني جبران خليل جبران في مقولته: "الموسيقى كالمصباح تطرد ظلمة النفس، وتنير القلب فتظهر أعماقه، والألحان في قضائي هي خيالات المشاعر الحية." أن الموسيقى تضيءُ الطريق للقلب حتّى يتجلّى في الوصول إلى حقيقةِ مشاعره الحيّة وفي ذلك تجلٍّ لمنازع النّفس الإنسانية الحقيقية ومكامنِ قوّتها وضعفها.
ذكرنا في هذا المقال القصير قليلاً من الآراء حول الموسيقى بينما تظلُّ الموسيقى عند من يؤمنُ أنّها ذاتَ عمقٍ بعيد وبين من يراها مجرّد لحظاتٍ من تجلٍّ سيّان في كونها الطريقة الإنسانيّة الطبيعية في الهروب من النّفسِ إلى النّفس ومن الضّيقِ إلى السعة وفي إزالةِ الأحمال عن الأكتاف وفي قولِ المشاعر التي يعجزُ الكلام عن وصفِها، وتظلُّ سيمفونيّاتُ بيتهوفن قادرة على تحريك الرجال بمختلفِ مستوياتهم الفكرية إلى الشوارع ممتلئين بشيءٍ يعرفونه ولكن لا يستطيعون وصفه.